أحلام الواقع

jaberba's picture
Published at: 
دنيا الوطن
Year: 
2005
AttachmentSize
أحلام الواقع175.73 KB

حملت ذواتي السبع إلى البحر، كي أستنشق نسيمه واستريح قليلاً، وإذا بأمواجه متلاطمة، وزبده قد تلاشى. وفجأة توقفت تلك الأمواج المتلاطمة، وعاد البحر هادئاً. ولم يعد صخب بوارجه وسفنه كعادتها تموج في عبابه، فأنست هذا المنظر، فالسماء صافية، والهواء عليل، والطقس جميل، والربيع قد تفتحت أزهاره، وصبايا البحر جلست على أريكاته وسط مياهه. وزاد اللوحة بهاءً خلو الشارع البحري من مرور المركبات التي كانت تسير إلى اللاشيء الذي وراءه كل شيء.

وإذا بي أنزل إلى هذا البحر، لألعب مع أقراني الثلاثة،  لعبة كرة الماء، بعد أن تيقنت قبل النزول إليه بأن أرض الملعب خلت من الأشخاص الذين يعرفون أسس وقواعد هذه اللعبة، وهناك مدعوها، ولكنهم نازلون.

كنا ثلاثة جبار العالي، ومحمود طه، وأنا. وهذه اللعبة وبهذه الظروف لا يمارسها إلا القليل، وأنا منهم. وبدأت الكرة تنطلق من هذه اليد إلى الأخرى. فقال لي جبار-وكان يقف في الجهة العليا- أظنك قد أصابك بعض الخوف من هذه اللعبة، في هذا الوقت من النهار المبصر، فقف فما أنت إلا قدري الموعود، فاخترتك أنت لأمارس هوايتي المفضلة معك وأقرانك.

أما محمود فظل يقذف بالكرة غير آبه، مسروراً بما يشاهد، من قدرتي على الثبات، واختياري أنا لا سواي فهو يعرف أن ثلاثتنا منتصر لا محالة، كذلك متأكد من وصولي إلى النهاية محتوما. وأن الأدعياء منهزمون، فعلامات الإعياء بدت عليهم، وألوانهم الشاحبة لم تعد خافية على أحد، فرغم طول مكثهم فهم ساقطون، ورغم صخب رغائهم صامتون.

أما أنا فظللت محدقاً بجبار، أرمي بالكرة إلى اقراني. كنت فرحاً بهذه اللعبة، وبما أقوم به، فأجمل ما في الوجود أن تكتشف ذواتك مبكراً، فتنطلق بلا قيود، وتصعد بلا استئذان، تعيش بلا حدود، رحابك أوسع من الآفاق، تعثر على الحقيقة المطلقة فتستمسك بها، وترى الكون أكبر من الوجود، تشاهد البساتين الخضراء، والمروج الشاسعة، والأنهار العذبة، والرياحين تفوح عليك من كل جانب، والحسان الغيد يتزملن بك من كل ناحية، فتصبح كالشم الرواسي، تزول الجبال وأنت ثابت، وتتعلثم الروابي. وأنت صاعد، تحلق كطائر الفينق فلا يستطيع أحد إمساكك. والنورس فلا يكترث بالوجود، والنسر فلا يستطيع أحد إنزاله.

بالأمس، قابلت أحد مدعي هذه اللعبة، فصافحني مبتسماً على غير عادته، قائلاً: لقد شاهدتك وأنت تلعب كرة الماء، وكنت بعيداً، فتأكد لي، بأنك لا زلت لاعبا ماهراً، فأنت منذ فتوتك المبكرة تملك إصراراً عجيباً، لا تلعب إلاّ مع الكبار، بل أكثر من هذا، كنت دائماً تدخل الهدف وحدك في المرمى.

فقلت في نفسي ما ذنبي، وأنا أمارس هوايتي، وألعب لعبتي المفضلة، لا ألعبها إلا حينما أجد أرض الملعب تخلو من القادرين عليها، حتى المدّعين، فأنا قدر الله لا محالة. وأن ذواتا عاشت ليلاً، وغفت عن السفاسف نهاراً منتصرة لا محالة رغم العابثين.

واليوم يسير معي طفل مشرف الخدين، يغفو معي، يصحو معي، ينهض معي، يأكل معي، وينام في فراشي باطمئنان، لا يجعلني أكترث بمن حولي من خفافيش الليل، وشذاذ الآفاق، وأبناء الأفاعي الذي أخافوا الضعفاء والمستكينين، وجعلوا بعضاً عبيداً بأثواب أحرار. وأشباه رجال بأثواب رجال.

ولكن الذي يعزيني في يومي أصوات متحسرة، تقول: انظروا! انظروا، فهنا يرقد الرجال الذي ماتت أحزانه. وإذا بهاتف يناديني، انهض، انهض، فأنت ذو القرنين يبعث من جديد.