دور التلفزيون في التربية والتعليم

yahyaj's picture
Published at: 
مجلة الإذاعات العربيةع 24، 1991، تونس
Year: 
2009

                                                                                  أستاذ مشارك بجامعة النجاح الوطنية

منتدب لجامعة القدس المفتوحة 

       لا أحد ينكر ما للتلفزيون من دور في التثقيف والتوجيه، سواء أكان ذلك على مستوى الأطفال، أم على مستوى الكبار، وقد تطور الأداء التلفزيوني إلى حد كبير بعد التوصل إلى نقل الصورة ملونة.

       وفي ضوء التطورات التقنية الحديثة في مجال تقديم المعلومات؛ فإن المدرسة، بعدم مجاراتها هذه التطورات، لم تعد مؤهلة لأداء الرسالة المنوطة بها على النحو الذي كانت تؤديه من قبل، بل إن الطفل الذي بات يألف الأتاري والفيديو وغيرهما من وسائل التثقيف والتسلية في عالم الطفل ـ ليجد في النمط المدرسي من الجمود والرتابة ما يبعث عنده السأم والملل.

       ولست  أدعو بما تقدم إلى التقليل من شأن المدرسة، ولا من شأن الدور الذي تقوم به، ولكني أشير إلى حقائق صار لزاما علينا أن ننتبه إليها قبل فوات الأوان، وإلى ضرورة اتخاذ الخطوات اللازمة للنهوض بمستوى الداء المدرسي، تمشيا مع تطور التقنيات التثقيفية والتعليمية المتاحة للأطفال عند ممارسة التسلية!

       ويعد التلفزيون أكثر التقنيات شيوعا، وأخطرها أثرا، وأقدرها على توحيد البنى الثقافية، ومن هنا، كان أولى بالعناية من غيره من أجهزة الإعلام والتوجيه، وجديرا بأن يوظف عبر خطة محكمة مدروسة لأداء رسالة بعينها، لا أن يترك خط سيره دون تحديد، فيكون بذلك عرضة لن يتحكم فيه ما يكتظ به السوق المحلي والخارجي من مواد جاهز، والله اعلم بمخرجاتها.

      

تعليم اللغة

       وفي هذه المقالة، نقصر الحديث على ما يمكن أن ينهض به هذا الجهاز الأخطبوط من دور بالغ الأثر في مجال التربية والتعليم، وتحديدا تعليم لغة الطفل، الذي يوشك أن يكون مضيعا في بلاد العرب كافة. وبعض ما سأذكره هو نتيجة دراسة محدودة، وتجربة لا بأس بها في مجالي الطفل ولغته والتلفزيون وإمكانات الإفادة منه.

       إن تعليم اللغة في برامج الأطفال المتلفزة، لا يظفر بحصة تناسب ما للغة من مكانة. وعلى العكس من ذلك، فإن لبرامج التسلية نصيب الأسد، مع العلم أن بعضها يمكن تحويره وتطويره، بحيث يكون صالحا لنقل رسالة التعليم والتثقيف إلى جانب رسالة التسلية.

 

التلفزيون التربوي والصغار:

       وننبه هنا إلى أن التلفزيون التربوي، المتخصص في التعليم  لا يعبأ بالصغار، ولا يعنى بتعليمهم، وكأن في النزول إلى ما يريدون، أو يرغبون فيه، نزولا في المستوى العقلي للمشرفين عليه! وهذه لعمري مغالطة كبيرة.

 

المهارات اللغوية:

       ولا تنحصر قابلية التلفزيون لتعليم اللغة في مجال دون غيره، ذلك أن جميع المهارات صالحة لأن تعلّم تلفزيونيا، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة، ونجمل هذه المهارات في ما يأتي:

1.    الكتابة، ونعني بها الرسم الكتابي ( orthography).

2.    القراءة، وتتضمن سلامة النطق واللفظ، كلمة كان المقروء أم جملة (reading) .

3.    الصرف أو البناء الداخلي للمفردة، وما يتفرع منه من اشتقاق وصيغ ومبان (morphology)

4.    النحو والتركيب، حيث يستطيع المشاهد أن يقف على أثر كلمة في النص في التي تليها، وعلامة ذلك الأثر (syntax).

 

برامج تربوية ناجحة:

          وقد نشير هنا إلى ثلاثة برامج تعليمية، لا أحد منا ينكر دورها في  تحسين لغة عدد لا بأس به من المشاهدين، وبالرغم من أن ذلك تم بنسب متفاوتة، وهذه البرامج هي مسلسل المناهل، الذي كان لي شرف الإشراف عليه من بدايته، ومسلسل افتح يا سمسم، الذي يجري الاستعداد لإنتاج مائة وثلاثين حلقة جديدة منه، أتشرف بالمساهمة في كتابة بعضها الآن، ومسلسل الآنسة إعراب. وقد نتساءل لماذا لا تعدّ برامج أخرى في هذا المجال؟! أهي الكلفة المادية؟ ... عذر غير مقبول ... ذلك أن ثمة من البرامج ما ينفق عليه طائل من المال دون أن يكون له مردود تثقيفي يعدل ما يؤمل في برامج تعليم الأطفال. أم هي الكتابة؟ وهذه ليست حقيقة كبيرة، ذلك أن في بلاد العرب، من المؤهلين ما يسد الحاجة، ويؤدي الغرض على أحسن وجه.

*****************

تعليم غير موجه:

          إن كثيرا من الأطفال دون سن المدرسة، يتعلمون بعض المفردات التي تظهر على الشاشة من حين لآخر ـ طبعا دون أن يكون الغرض منها تعليميا، فما باك لو كان ذلك ـ مثل عبارة: التلفزيون، البرامج، وكلمة الأخبار، القناة الأولى، افتح يا سمسم، الأطفال، مسلسل ـ وغيرها من المفردات التي تظهر على الشاشة.

          وهذه ملاحظة جديرة بالأخذ بعين الاعتبار، ذلك أنها ظاهرة تشجع على المتابعة والتوظيف على نطاق واسع في مجال تعليم المفردات.

          ونسمع كثيرا من الأطفال يرددون أسماء ومفردات تعلموها من هذا المسلسل أو ذاك ... وبعضها ـ على سبيل المثال ـ أجنبي غير عربيّ، أفلا نعرب برامج الأطفال تعريبا شاملا؟ ونأخذ امتيازا بذلك بحيث نحافظ على الحيز الدماغي المحدود للطفل، فبدلا من حشوه بألفاظ هذه صفاتها، فإن الأولى ـ ما دام في هذه السن ـ أن نقدم ما يحفظ له أصالته.

 

أساليب متاحة:

          ومن الأساليب الناجحة التي يمكن أن نلجأ إليها عند استخدام التلفزيون في تعليم الطفل القراءة والكتابة ـ القصص المصورة المزودة بالمفردات أو العبارات الضرورية، ولا يشترط هنا أن نكتب كل أحداث القصة، بل نكتفي، وبحسب الفئة المستهدفة ـ بكتابة بعض المفردات المفصلية الرئيسة، الجديدة. التي نريد أن نبث صورتها الكتابية في ذهن الطفل، مكملين سائر أحداث القصة بالرواية الشفوية.

 

دور الألوان:

          وتلعب الإمكانات التلوينية دورا خطيرا في مجال تعليم الصرف والنحو، لا سيما فيما يتعلق بالاشتقاق من الأصول اللغوية وبيان الآثار النحوية، كالإعراب بالعلامات الفرعية والأصلية، وذلك بأن يظهر الأصل اللغوي بلون واحد في جميع المشتقات منه، وبأن يظهر حرف الجر ـ مثلا ـ وأثره الإعرابي: الكسرة أو الياء والنون في الجمع السالم والمثنى ـ بلون واحد دون سائر الكلام، وبذلك يتم الربط في ذهن المتلقي بين الحرف والأثر الذي أحدثه عن طريق اللون.

 

المسابقات اللغوية:

          ومن الإمكانات التي تغفلها المحطات العربية المختلفة، إجراء مسابقات لغوية على مستويات مختلفة، بحيث نجد منها ما يناسب الأطفال في سن ما قبل المدرسة، وأخرى ـ تعرض في دورة غيرها ـ تناسب الأطفال في السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية، وهكذا.

 

لغة المذيع:

          ومن ذلك أيضا، وهو أيسر الممكن، أن تقدم الفقرات المختلفة بلغة سليمة خالية من الأخطاء، وحبذا لو كان لنا أن نطمع في نبذ اللهجات الدارجة، والاقتصار على اللغة الفصيحة في كل العمال الفنية المسموعة والمقروءة التي تأتينا عبر الشاشة والسماعة.

 

خطورة التلفزيون:

          إن للتلفزيون مكانة خطيرة ... ومرد الخطورة إلى الدور الذي ينهض به، والرسالة التي يؤديها ... وكل ذلك يتذبذب بين نافع يمكن أن نرتقي به إلى ما هو أنفع، وضارّ يمكن أن نتحاشاه وننبذه.

          وإن اللغة، وهي أخطر الأنشطة في حياة الإنسان، الفرد والمجتمع، هي أيضا أساس تقدمه ومقياس ذكائه ... والتلفزيون معلم عن أراد، ويستطيع أن يخدم اللغة إلى حدّ بعيد ... وتلك قصة تطول، ودائرتها تتسع لتشمل كل المحطات العربية.

 

أثر سحري:

وللتلفزيون أثر سحري في مشاهده، ولعل الإنسان لم يهتد بعد إلى ما هو أخطر منه في مجال التثقيف، سواء أكان ذلك على مستوى الفرد أم على مستوى الجماعة. وتعود خطورته إلى فعاليته الشديدة، وإلى انجذاب المتلقي إليه انجذابا طوعيا، ربما كان للخيارات المتاحة فيه ما يؤكد ذلك الانجذاب. إضافة إلى أن يوظف أهم حواس المشاهد في تلقي ما يقدمه، وهما حاستا البصر والسمع، وهما نافذتا العقل على العالم الخارجي، وسبيل الإنسان إلى الحياة القويمة.

          وتتأتّى خطورة التلفزيون من جوانب عدة، سنتحدث عن كل منها في ما يلي: آخذين بعين الاعتبار وجه الخطورة في كل جانب، والسلبيات التي ينبغي اجتنابها، والإيجابيات التي ينبغي الإكثار منها وتطوير أدائه فيها.

 

التلفزيون مكتبة مفتوحة:

          يمثل البرنامج التلفزيوني الواحد، كتابا يقدم للمشاهد بطريقة أكثر فعالية، وأبعد أثرا من الكتاب المطبوع، ولما كانت القناة الواحدة تقدم عددا من البرامج يوميا، وكان هناك عدد كبير من القنوات التي يمكن أن يستقبلها التلفزيون في ساعات اليوم المختلفة، فإن شاشته تقوم بدور المكتبة المتنقلة، لكن بقدرة أدائية أكبر، وبقوة تأثيرية أشد.

          وتتنوع المواد المعروضة تنوعا يفوق في مقداره تنوع الكتاب الذي قد نظفر به على أرفف المكتبات العامة، وبعبارة أخرى، إن القناة التلفزيونية الواحدة، تمثل بما تقدمه من برامج وفقرات، قناة، أو جدولا دائم الجريان، يسيل بفيض من المعارف والعطاء الثقافيّ!  وتشكل أشرطة مسجل الصورة أو (video) بعدا آخر، وعمقا بعيدا لهذه المكتبة، وذلك بما تتضمنه من مواد مختارة.

          ويمتاز العطاء التلفزيوني عن العطاء المكتبي، في انه يمكّن المشاهد من الاختيار السهل، فما أسرع أن يستعرض المشاهد برامج القنوات المختلفة، فيقع اختياره على أحدها، ويجلس لمشاهدتها، ولكن القارئ في كتاب، إذا أراد أن يتحول إلى موضوع آخر، فإن عليه أن ينقب حتى يعثر على بغيته، وقد يستغرق في ذلك وقتا طويلا، وهنا ننبه إلى ما يمتز به ناخب القنوات (remote – control) من خصوصية تيسر الاختيار إلى حدّ لا يجارَى.

 

التلفزيون واسع الانتشار:

          ويمتاز التلفزيون عن غيره من أجهزة الإعلام والتعليم والتثقيف، باستثناء الإذاعة ـ في انه واسع الانتشار على نحو يزيد في خطورته، فهو يكاد لا يخلو منه بيت، بل أن في بعض البيوت اثنين أو ثلاثة، في الوقت الذي نجد بيوتا كثيرة، تخلو من الكتب.

 

بين التلفزيون والإذاعة:

          كانت الإذاعة المسموعة قبل انتشار التلفزيون، أسرع وسائل الإعلام وأكثرها انتشارا، وكانت تستقطب الآذان بقدر ما يفعله التلفزيون اليوم في استقطاب الأبصار والأسماع ولكن !

          لكن انقلابا خطيرا حدث في الهندسة الإلكترونية، وتمكن الإنسان من أن يركب أجنحة أثيرية للصورة، كما نجح الصوت من قبل، فأصبح المذياع ثانيا بعد أن كان أولا، وربما نافسه مسجل الصوت (recorder) على هذه الدرجة؛ لأن ما يؤديه ألصق برغبة الإنسان مما يؤديه المذياع. والتلفزيون أعمق أثرا، وأعلى أداء منهما؛ ذلك لمخاطبته مع السمع البصر، وغير ذلك مما سنورده في ما يأتي.

 

برامج التلفزيون بين الحياد والتحيز.

          تتراوح برامج (التلفزيون) في ما تحمله من رسائل، بين الحياد والانحياز، فمن برنامج يقدم المعلومة مجردة من كل هوى وميل، إلى برنامج توجيهي، يكون الغرض الأصلي منه زرع أفكار بعينها، أو إغراء المشاهد بمسلك أو بسلعة، أو غير ذلك من الأغراض المعنوية والمادية.

          فالفقرات الدعائية على سبيل المثال، تجاهر بعرضها المتمثل في ترويج سلعة أو نحوها، والبرامج الدينية، على سبيل المثال، تجاهر في الدعوة إلى الالتزام بمنهج الإسلام، والتحلي بأخلاقه، وأداء شعائره وعباداته. حتى برامج التسلية والترفيه، فإنها لا تخلو من رسالة تحملها للمتلقين، بل عن كثيرا من شركات الإنتاج التلفزيوني، تلجأ إلى دسّ السّمّ في الدّسم، بحيث تقدم للمشاهد ما ظاهره التسلية والترويح، وباطنه الطعن والتشويه.

 

طفرة عظيمة:

          وقبل نحو ثلاثين عاما، كان الحدث الضخم ... عندما توصل العلماء إلى نقل الصورة بألوانها، فكان انقلابا خطيرا وثورة في عالم التقنية، تضاهي في أثرها نقل الصورة في حدّ ذاته؛ ذلك بما تمكّن المشاهد من الوقوف على الصورة بدقة متناهية، لأن تمام الصورة بلونها، وكم مرة كان فيها اللون فيصلا في تحديد الأمور والحكم عليها.

          واليوم تجري محاولات جادة لإضافة بعد ثالث للصورة، هو العمق، بحيث يراها المشاهد كما لو كانت حقيقة محسوسة، فنحن في التلفزيون المعروف اليوم ... نشاهد الصورة بطول وعرض ... وقد لا يطول انتظارنا حتى تخرج علينا إحدى الشركات باختراع جهاز يقدم الصورة بعمق وطول وعرض، فيكون ذلك انقلابا آخر وأخطر.

 

 

 

التلفزيون مدرسة:

          تتباين درجات الأداء التلفزيوني وتتفاوت، حيث يمثل التلفزيون مدرسا خاصا، ويقوم بدوره إذا أريد له أن يكون كذلك، سواء إذا قصدنا برامج التلفزيون التربوي، أو البرامج لخاصة التي تكون مسجلة على أشرطة مسجل الصورة "الفيديو".

          ويمكن أن نجلس لتلقي الدرس التلفزيوني، أو مشاهدة برامجه الترفيهية، واحد أو اثنان، أو مجموعة، تماما كما هي الحال عند تلقي الدرس من مدرّس مباشر بالطريقة الوجاهية، ولئن كان هناك فرق بين الحالين، فهو أن متلقي الدرس التلفزيوني لا يناقش محدثه، على العكس من متلقي الدرس المدرسي، حيث يستطيع أن يستفسر ويناقش مباشرة.

          وقد طوّر المشتغلون بالتقنيات التلفزيونية أساليب تمكّن من عقد ندوات على الهواء مباشرة، يشارك فيها عدد كبير من المشاهدين والعلماء، وربما كان تواجدهم في بلدان متباعدة جدا، ويتم دمج القَطَعات بوساطة قنوات خاصة في الأقمار الصناعية.

          ومن الأساليب التي يُلجَأ إليها في التثقيف عن طريق التلفزيون، الدوائر المغلقة، وذلك عندما تضيق القاعة بالمشاهدين، فيفرقون في قاعات أخرى، وتتم المشاهدة عبر شاشة التلفزيون الموصل سلكيا أو لا سلكيا بشبكة بث داخلية.

          وبعد، فهذا هو التلفزيون، وهذه هي إمكاناته، وذلك هو مبلغ الخطورة فيما يؤديه، وإن رسالته لتسمو إذا كانت منسجمة مع أهداف الأمة، مصطبغة بلونها، قائمة على أساس عقيدتها، وإلا، كان شيطانا يغتصب الوقت، يعبث بالقيم، ويحرم الأمة من الإفادة من إمكاناته الضخمة، وأساليبه الناجحة، ولئن شبهنا شاشته بما تقدم للمشاهدين، بقناة تجري بالماء، فلنحرص على ألا يكون إلا ماء عذبا صالحا للشرب.

          ألا إن التلفزيون نار، قد نستخدمها في ما نصلح به أمرنا، وقد لا ... وإلا فحذار من الاحتراق بالنار.