تعلُّم العربية ودراستها؛ مأرب أم حفاوة

yahyaj's picture
Year: 
2009

تعلُّم العربية ودراستها؛ مأرب أم حفاوة

 

أ.د. يحيى جبر                       أ. عبير حمد

أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية                  الباحثة لدى الدار الوطنية للترجمة والنشر

يتلقى الإنسان لغته  فطريا من والديه ومحيطه الاجتماعي، ويتعلمها لتحقيق ذاته، وتعميق انتمائه، وتحصيل علومه، وهناك من يتعلم لغة غيره إضافة إلى لغته، ويدرسها انطلاقا من مآرب مختلفة، فالمترجم إنما يتعلم اللغة الأجنبية ليتمكن من نقل المعاني من هذه اللغة إلى تلك، وهذا عمل جليل لما للترجمة من دور في الحوار بمعنييه؛ الحضاري العميق، والمصلحي المتمثل في تعريف الأطراف المتعالفة بما يريده الطرف الآخر.

وقد كانت العربية، وما تزال، موضوعا لدراسات شتى منذ وقت مبكر، وتعلَّمها من غير أهلها ما لا سبيل إلى إحصائه، كما أنه كان يهدف لتحقيق مآرب مختلفة؛ فقد تعلمها المسلمون من غير العرب، بما هي لغة دينهم، وبما كانت لغة الدولة الإسلامية ردحا من الزمن، وتعلمها غير المسلمين لأهداف تتفاوت في دوافعها بين خيِّرة وشريرة، وأبرز ما كان من ذلك هو البحوث والدراسات الاستشراقية، إلى جانب إقبال المستشرقين وغيرهم من أبناء جلدتهم على تعلم العربية لتحقيق مآرب مختلفة.

اللغة العربية في النشاط الاستشراقي

بداية، لا بد من تحديد دلالة مصطلح "الاستشراق". فهو من الناحية اللغوية مصطلح مشتق من جهة الشرق. ولكن الشرق يختلف باختلاف المكان؛ فما هو شرق بالنسبة لنا قد يكون جنوبا بالنسبة لغيرنا في بقعة أخرى من الأرض، وما هو إلى الغرب منا قد يكون شرقا بالنسبة لهم.  وهكذا، نجد أن مفهوم الشرق "يتغير تبعا لاختلاف المكان وتغيّر الأزمان؛ فالشرق يختلف بالنسبة للياباني أو العربي أو الألماني أو الأمريكي، كما أن الشرق يختلف بالنسبة لأهالي العصور القديمة والوسطى، ولنا في العصر الحديث، وبخاصة بعد اكتشاف الأمريكتين."(1).

هذا من ناحية جغرافية، أما إن كنا نقصد بمصطلح الاستشراق صورة حضارية وهوية ثقافية؛ فالأمر لا يخلو من تعقيدات وتداخلات أيضا؛ حيث نجد صورا حضارية وسلوكات مشتركة بين جماعتين من الناس؛ إحداهما تعيش في الشرق, والأخرى تعيش في الغرب، وهذا التشابه راجع إلى الأصل الإنساني الواحد والفطرة البشرية، ثم إن المجتمعات تتغير وتتطور باستمرار؛ فكيف يجوز لنا أن نطلق مفهوم الشرق على صورة حضارية معينة، حتى إذا تغيرت بالكامل أطلقنا عليها المفهوم ذاته؟.

ولذلك فإن بعض الباحثين يرون "أن الاستشراق خطاب أو إنشاء، لكنه خطاب لا يعكس حقائق أو وقائع، بل يصور تمثلات وألوانا من التمثيل، حيث تختفي القوة والمؤسسة والمصلحة، إنه خلق جديد للآخر، أو إعادة إنتاج له على صعيد التصور والتمثيل، مما يجعل من الاستشراق "موضوع معرفة" بينما يظل موضوعه الذي هو "الشرق" موضوع واقع لا تربطه به صلة تطابق أو تعاكس"(2).

 

مرامي الاستشراق القديم

لقد حظي التراث العربي الإسلامي بما لم يحظ به غيره من الدراسات والأبحاث، ولعل في ما ذهب إليه محمد المقداد ما يترجم ذلك؛ إذ يرى" أنه ما من شعب في العالم بأسره استطاع أن يستحوذ على اهتمام الشعوب الأخرى الفاعلة في الحضارة الإنسانية وتاريخها, بقدر ما كان للعرب من اهتمام لدى الباحثين والدارسين من تلك الشعوب، ولعله ليس أدل على ذلك من أنه لا تكاد تخلو مكتبة من مكتبات العالم من عدد من المخطوطات العربية المختلفة"(3).

ونتيجة لما تقدّم فقد خضعت اللغة العربية لكثير من الدراسات الاستشراقية، وقد يكون ضروريا أن نتوقف عند وجهة نظر إسماعيل عمايرة في هذا الصدد، إذ يرى أن المفهوم الاستشراقي للغة العربية " سلسلة من المراحل المتباعدة تدريجيا، حتى يصبح الفرق واسعا بين ماضي اللغة وحاضرها. ويشمل الاتساع الفروق بين المراحل اللغوية، وجميع الجوانب اللغوية من نحو، وصرف، وصوت، ومعنى. أم المفهوم العربيّ السائد فهو يقوم على أن للعربية وضعا خاصا يميزها في تطورها عن اللغات الأخرى بحكم ارتباطها بالقرآن الكريم، وعلى هذا فإن معاني العربية في مفرداتها وتراكيبها قد تتغير أو تتسع أو تضيق ... أما التراكيب الصرفيّة والنحويّة فتبقى على نمطها القديم. ولا يتجاوز ما يعتريها من تطوّر أن يكون وجوها من الجواز اللغويّ القديم. فإن تجاوز ذلك فإن ذلك التجاوز في قواعد النحو والصرف عند العربيّ نوع من اللّحن والخروج عن الصواب"(4).

وينجم عما تقدم أن يختلف مفهوم العربية الكلاسيكية بين العربي والمستشرق؛ الذي يراها تمثل مرحلة لا تستوعب كل المراحل، بينما "يرى العربيّ أن هذا المفهوم لا ينطبق على "ثوابت" اللّغة من نحو وصرف. ويحتج المستشرق على الكلاسيكيّة بنصوص تراثيّة تخرج عن عصر الاحتجاج، ولذا فقد رأينا في منتخباتهم نصوصا من عصور تراثية شتى. أما العربيّ فلغة الاحتجاج محدّدة عنده؛ زمانا، ومكانا، وقبائل معينة، وكل ما سار على نمطها من نصوص في سائر العصور فهو أمثلة ومحاكاة للنمط المعياريّ القديم وليس تجديدا. "ولا شك في أن منشأ هذا الخلاف فلسفيّ ثقافيّ، فالعربيّ يتشبث بالنمط القرآنيّ؛ لما للقرآن الكريم من أهمية في حياته، ولما للنمط القرآنيّ من معانٍ في توحيد الأمّة. وليست هذه القيم بذات بال عند المستشرق، ولا عرفت اللّغة عنده هذه القيمة، ولذا كان مفهوم الكلاسيكية Klassisch عنده مرتبط بالقدم، وأما مفهوم المعاصرة Modern فمرتبط بالحداثة. وتاريخ اللغات الأوروبية يعرف هذين المفهومين وما يترتب على كلّ منهما من تغيير واسع بين ماضي اللّغة وحاضرها في جميع جوانبها الصوتية والنحوية والصرفية .. وعلى هذا فإن ما ينبّه إليه بعض الباحثين العرب على أنه أخطاء شائعة ينبّه إليه المستشرقون على أنه خصائص مرحلة جديدة للّغة(5).

وبالتالي فإن محاولة حصر أهداف دراسة الغرب للشرق العربي الإسلامي وللغة العربية في زاوية واحدة أو اتجاه محدد ستكون محاولة غير موضوعية، فلا شك أن المستشرقين لم يكونوا سواءً، لا من حيث مبادئهم ولا أهدافهم، وبالتالي فإن دراساتهم قد تنوعت أهدافها ودوافعها تبعا لذلك، كما أننا يجب ألا نُغفل أن أهداف الدراسات الاستشراقية كانت تختلف باختلاف متطلبات كل مرحلة أو دولة وعلاقتها بالشرق وأهله، وكانت نتيجة هذا الاختلاف تنوع النتاج الاستشراقي إلى حد التناقض أحيانا. وبالرغم من ذلك كله فإننا لا نستطيع أن ننكر أنه كانت تسيطر على المستشرقين أهداف محددة في فترات محددة وإن كانت لهم أهداف ثانوية أخرى. "على أنه قد يجتمع أكثر من دافع وهدف وراء نشاط استشراقي واحد، في زمن واحد، وفي بلد واحد، فقد تأتي هذه الدوافع مجتمعة أو متفرقة، كما أن درجة قوتها متفاوتة، فبعضها قد يكون هدفا مهيمنا والبعض الآخر قد يكون هدفا ضمنيا"(6).

وهذا الافتراض هو ما نتكئ عليه في تصنيفنا للأهداف التي تكمن وراء دراسة اللغة العربية، مع يقيننا بالتداخل بين هذه الأهداف. ولا بد من الإشارة إلى أننا في هذا البحث نقصد تحليل مآرب دراسة غير العرب للعربية، دون أن نتطرق إلى أهداف دراسة العرب للغتهم، فلا شك أن أهداف كلا الفريقين مختلفة. ويمكن إجمال أبرز المآرب التي حفزت الآخر لدراسة العربية في النقاط التالية:

1.  مآرب دينية

وأكثر ما يتجلى ذلك في بدايات الاستشراق بمفهومه الضبابي الذي ساد ما بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر؛ إذ "ربط الغرب اهتمامه بالعربية في الماضي ربطا وثيقا بما عرف عندهم باسم "المشكلة الإسلامية" أو "الخطر الإسلامي". فالخطر الإسلامي كان أكبر ما يؤرق أوروبا التي تقع جغرافيا على الشاطئ الغربي للبحر المتوسط، ويقع هذا "الخطر" على الجانب الشرقي منه. وقد فكرت أوروبا قديما في حلّ هذه "المشكلة" عسكريا، غير أن الحلول العسكرية قد باءت بالفشل أيام الحروب الصليبية(7).

وركزوا في دراساتهم على اللغة العربية في محاولة منهم لتمكين المستشرقين من التعامل مع الإنسان العربي ولم يهدف " أصحاب هذه المحاولات تعريف بعض الدوائر الأوروبية ب "فقه اللغة العربية" بل قصدوا بها شرح مضمون نصوص القرآن لفئات مسيحية أوروبية محدودة الإطار، ولجمع المادة الفكرية الضرورية لحرب الإسلام والمسلمين والعرب، وذلك في العصر الذي تصدر فيه العثمانيون الدفاع عن الإسلام (8).

ومن هنا كان تركيزهم على العربية طمعا في النيل من القرآن الكريم وفي محاولة لصرف المسلمين عن دينهم، وذلك حين وجّه المستشرقون اهتمامهم إلى ترجمة القرآن الكريم ابتداء من القرن الميلادي الثاني عشر؛ حين " قام بطرس الموقر (ت 1156) رئيس رهبان كلوني بجهود كبيرة حتى ظهرت أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية في عام 1143م، والتي قام بها العالم الإنجليزي أوف كيتون(9).

 

وقد نشط المستشرقون في هذا المجال إلى حد بعيد؛ فقد" تعددت ترجمات معاني القرآن الكريم بلغات شتى، وقام المستشرقون بعمل مقدمات لها وضعوا فيها تصورهم للإسلام، وقد كان لهذه المقدمات فائدة أيضا؛ إذ أنها نبّهت المسلمين إلى فهم الأوروبيين الخاطئ للإسلام.(10)

وقد أحرز بعض المستشرقين الأوائل قصب السبق في هذا المضمار؛ فهذا هو رايموندس لولوس Lullus  يعلم من تجاربه الخاصة علم اليقين بأن المسلمين لن يقتنعوا بصدق الدعوة المسيحية بالسهولة التي يتصورها بعض المسيحيين، لإيمان المسلمين بجدية عقيدتهم. ومع ذلك اعتقد بإمكانية اختراق طوق هذا الإيمان بشرط توفر عاملين اثنين هما:

1.     أن يجيد المبشر الكاثوليكي اللغة العربية بطلاقة، لأنها لغة القرآن.

2.     أن يتحلى هذا المبشر بالصبر خلال الحوار مع المسلمين والجدل مع فقهائهم.

ولذلك فقد شرع Lullus في العمل على تحقيق الشرط الأول، فتعلم اللغة العربية على يد خادم موريتاني مدة تسع سنوات متواصلة. ثم أقنع الكاردينال "يعقوب الأول" أن يقيم مركزا لتثقيف المبشرين المسيحيين بالعلوم اللاهوتية وتعليمهم اللغة العربية. وبذلك يكون أول من ربط دراسة اللغة العربية في أوروبة بـ "علم اللاهوت" هذا العلم الذي خيّم عليها لعدة قرون لاحقة من الزمن، وترك أثره السلبي على دراستها، الأثر الذي لم تستطع أن تتخلص منه إلا بعد جدل طويل حادّ بين قلة من المستشرقين آمنت بفقه اللغة العربية المجرد وبين كثرتهم، التي لم تر في اللغة العربية إلا تابعا للغات شرقية أخرى وخاصة العبرية من بينها.(11)

"ويؤكد دوجا Dugat على هذه الأهداف التبشيرية حين فسّر تشجيع البابوات على إدخال العربية إلى أوروبا "وهو نشاط استشراقي" ليكون هؤلاء البابوات قادرين على دفع هجوم الفلاسفة، أو لنشر المسيحية في الشرق، كما أكد على أن ملوك فرنسا كانوا يساعدون الإكليروس ـ رجال الدين ـ في هذا النوع من الأفكار."(12)

وفي بريطانيا، بدأ الاهتمام باللغات الشرقية بعامة، والعربية بخاصة لدوافع دينية كذلك، "تمثلت في ضرورة الوقوف على هذا الدين، وحماية المسيحيين منه، وإضعافه في الوقت نفسه، وكذلك الاستفادة من العربية وعلاقتها باللغات السامية لفهم الكتاب المقدس وتفسيره مع ما يتفق والمذاهب البروتستانتية؛ مما جعل كبير الأساقفة "لود" يسعى لإنشاء كرسي للغة العربية في جامعة أكسفورد، كما أسس السير توماس آدمز كرسيا للدراسات العربية في جامعة كمبريدج عام 1632م. وازدهر الاهتمام البريطاني بالشرق في مطلع القرن الثامن عشر، وأنشئت كراسي جديدة للغة العربية في جامعتي كمبريدج وأكسفورد، وزاد هذا الاهتمام في القرن التاسع عشر بفضل ما نشره علماء حملة نابليون، فأنشئ كرسي للعربية في جامعة لندن."(13)

وفي مرحلة تاريخية لاحقة، أصبح الدافع الديني معلنا ومهيمنا على النشاط الاستشراقي الأوروبي، فنجد على سبيل المثال أن قرار إنشاء كرسي اللغة العربية في جامعة كمبردج ببريطانيا عام 1936 قد أشار صراحة إلى الهدف الديني وإن شاركته أهداف أخرى، حيث نص خطاب الجامعة المذكورة الخاص بإنشاء الكرسي على ما يلي: ".......ونحن ندرك أننا لا نهدف من هذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد بتعريض جانب كبير من المعرفة للنور، بدلا من احتباسه في نطلق هذه اللغة التي نسعى لتعلمها، ولكننا نهدف أيضا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة والدعوة إلى الديانة المسيحية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات."(14)

 

2.     مآرب اقتصادية

من طريف ما يؤثر عن إيللي براندت، المستشار الألماني الأسبق قوله:" إذا أردتُ أن أبيعـــك بضاعتي يجب أن أتحدث لغتـك, وإذا أردتَ أن تبيعني بضاعتــك فعليك أن تتحدث بالألمانيـة " المستشار الألماني الأسبق.

 ويبين " لينين " صلة اللغة بتشكيل الكيان الواحد للمجتمع عن طريق إسهامها في إيجاد السوق ، وتمكين الأمة من عمليات البيع والشراء والأخــذ والعطـاء ، قائلا : " اللغة هي الأداة الأساسية للتعامل الإنساني ، ووحدة اللغة وتطورها غير المحدود ، هو أحد الظروف الأكثر أهمية من أجل تعامل تجاري حر بالفعل ، وواسع النطاق ، على المستوى الذي تتطلبه الرأسمالية الحديثة ، ومن أجل التجميع الحر والعريض لكل السكان ، من مختلف الطبقات . وأخيرا من أجل إقامة ارتباط وثيق بين السوق وكل مالك ، كبيرا كان أو صغيرا ، بائعا أو مشتريا "(15).

 

وهكذا نستطيع أن نجزم أن النشاطات التجارية التي شهدتها المنطقة العربية عبر القرون، وسواحل المحيط الهندي شرقا وجنوبا قد أدت إلى انتشار العربية من قبل، والإنجليزية من بعد. وقد أسهمت الدراسات الاستشراقية، ولا سيما ما اتجه منها لدراسة العربية وإتقانها في تنشيط العملية التجارية بين الشرق والغرب، ولا سيما في القرنين 18، 19، حين نشط القناصل الأوروبيون في المنطقة على نطاق واسع، إذ لم تكن مدينة لتخلو من عدد منهم..

3.     مآرب استعمارية

كان لتعلم العربية دور في خدمة النشاطات الاستعمارية والتمهيد لها، فما أن جاء القرن الثالث عشر حتى أدرك بعض مفكري الغرب ضرورة الاتصال ثقافيا بالحضارة الإسلامية وضرورة تعلم اللغة العربية بل التسلح بأفكار المسلمين وطرائقهم في المحاججة للردّ عليهم على نحو ما أُثر عن"روجر باكون Roger Bacon"  وقد ظلّ هذا الاتجاه يتنامى إلى أن عُقِد مجمع فينا عام 1312م الذي أوصى أن تُدَرّس العربية في كبرى المراكز العلمية الأوروبية: باريس وأكسفورد وبولونيا وأفيون وسلامنكا. وتعد هذه الخطوة بداية المحاولات الأوروبية رسميا للاهتمام بالعربية, فضلا عن ذلك، يمكن أن يعدّ هذا المجمع نقطة تحول أو انتصار للاتجاه الأوروبي الداعي إلى حرب المسلمين ثقافيا............ وعلى أي حال فإن تفكير اليسغوفي في ترجمة القرآن كان جزءا من مخطط يراد من خلاله أن تتجاوز الحرب الثقافية ضدّ المسلمين صورتها التقليدية القائمة على الانفعال الخيالي، والاستعاضة عن ذلك بالاتصال بالأصول الإسلامية."(16)

"وقد خبا الصوت العسكري الداعي إلى إبادة المسلمين بالقوة في عنفوان قوة المسلمين إبّان الحكم العثماني، فأرقى ما يمكن أن يطمح فيه بلد أوروبي كالنمسا أن تفكر في الدفاع عن عاصمتها "فينا" التي حاصرها الجيش العثماني مرتين سنة 1529م وسنة 1683م. وقد كان سبيل النمساويين في تعاملهم مع الأتراك أن يلتمسوا سبل المواجهة الثقافية، وفي هذا المعنى تقول المستشرقة أنّي ماري شمل Ane marie Schimmel  "ولذا وجب على النمساويين الاهتمام بعادات جيرانهم الأقوياء (تعني الأتراك) وبطرق حياتهم وكذلك بلغتهم، فحُفِرَت حروف عربية في خشب لأجل الطبع ـ لأول مرة ـ في سنة 1554م في فينا.(17)

 

4.     مآرب علمية

لم يلتفت الأوروبيون في العصور الوسطى إلى أهمية اللغة العربية، ويؤكد "رينو" هذه الحقيقة بقوله: "والمسيحيون من جهتهم لم يكونوا ليفكروا في تلك العصور التي ساد فيها الجهل والبربرية في بلدهم في تعلم اللغة العربية ، والتاريخ لا يحدثنا في هذا السياق إلا عن كاهن واحد، وهو رئيس سانت جال، واسمه هارتموت Hart mote  الذي كان درس في حوالي سنة 880م اللغة العربية إلى جانب العبرية واليونانية"(18)

ولكن حاجة الأوروبيين إلى الخروج من دائرة وسائلهم الثقافية لم تخرج بهم كثيرا من قبل عن اللغة اللاتينية وبعض لهجاتها، ولكنها زادت بل أملتها عليهم ثقافتهم النصرانية ذاتها، فقد تصدّعت الوحدة الأوروبية التي كانت الكنيسة الكاثوليكية رمزا لها .. وكان من أسباب تصدعها في القرن السادس عشر اختلافهم في صحة النصوص التي تتشبث بها الكنيسة الكاثوليكية .. وكان البروتستانت بزعامة مارتن لوثر الألماني، في منتصف القرن السادس عشر، من أهم الثائرين على الكنيسة، وقد رأى هؤلاء انه لا بدّ لهم من العناية باللغات السامية التي وردت فيها النصوص النصرانية المقدسة، كالعبرية والسريانية والحبشية .. ولما كانت هذه اللغات مندثرة غامضة في كثير من مفرداتها وتراكيبها فقد بات لزاما عليهم أن يستعينوا على معرفة ألغازها وغوامضها بالاستئناس بالعربية وهكذا أصبحت العربية ـ لغة عدوهم الإسلامي ـ معينا لهم في معرفة لغة نصوص كتبهم المقدسة، وقد كانت إلى ذلك الوقت لغة مهمة علميا ـ فقد كانت وعاء لعلوم مختلفة كالطب والكيمياء .. وأهم من ذلك بالنسبة للأوروبيين أنها حفظت لهم الفلسفة اليونانية التي ترجمت إلى العربية، وفي ذلك يقول "آربري": "كان من فخارها (أي: العربية) أنها صارت الواسطة التي نقل بها أرسطو وجالينوس اللذان كانا قد آلا إلى النسيان."(19)

 

واقع الدراسات الاستشراقية المعاصرة وأهدافها

يشهد العالم المعاصر توجه قطاعات عريضة من الباحثين للدراسات الاستشراقية، وإقبالا واسعا على تعلّم اللغة العربية، وجل ذلك يأتي استمرارا لما كان عليه الأمر من قبل، وبتوجيه مباشر من فريقين هما النظام الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الكنائس التي تنشط في مجال ما يسمونه " التبشير"، مستغلين الظروف الصعبة التي تعيشها جماهير المنطقة جراء مخلفات الحقبة الاستعمارية المباشرة، وحقبة ما بعد الاستعمار؛ حقبة وكلاء المستعمرين التي تعد أسوأ من سابقتها لتواتر المشاكل على المجتمعات من كل لون، وجدير بالذكر أن هذه الكنائس ليست أمريكية أو أوروبية بالضرورة، إذ قد تكون كورية جنوبية أو غير ذلك لكنها تمثل امتدادا لتلك، على نحو ما تناقلته وكالات الأنباء عند احتجاز الكوريين الجنوبيين في أفغانستان مؤخرا، بل إن من هؤلاء الكوريين من يأتي لبعض الدول العربية لتعلم اللغة العربية، ومنها فلسطين ليعمل جهارا في " التبشير".

وربما التقى الفريقان في أهدافهما العامة؛ وهي المتمثلة في إحكام السيطرة على الشرق الإسلامي، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، بل فلسطين وما والاها بشكل أخص، لما لها من مكانة وخصوصية عند أهل الأرض قاطبة، وتمكينا للدولة العبرية من الاستمرار في البقاء؛ باعتبارها تمثل ملتقى أهداف الفريقين: اللاهوتية والسياسية.

وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001م، وما شنته الولايات المتحدة من هجمة كيدية على البلاد الإسلامية، تنبهت الإدارة الأمريكية، ولا سيما إدارة بوش الابن إلى أهمية اللغة العربية وغيرها من اللغات لمكافحة "الإرهاب" الذي تمثل أداته الكبرى لو كانت تعلم. ومن هنا أوعز بوش إلى إدارته لتشكيل الهيأة الوطنية للغات، وبادرت بعض المؤسسات الأمريكية إلى تعليم العربية، وإيفاد المبعوثين، وأسست لهذا الغرض مركز دراسات العربية في الخارج (CASA)، ملحقا بجامعة تكساس، وغير ذلك من المؤسسات والأنشطة.

ولعل أوضح ما يجلّيِ الأمر أن يرتفع الراتب السنوي للمترجم الذي يعمل مع القوات الأمريكية الغازية، في العراق أو أفغانستان إلى ما يربو عن 180,000 دولار أمريكي.

وعلى الصعيد نفسه بادر الجيش الإسرائيلي إلى تعليم منتسبيه اللغة العربية الدارجة ليتمكن من التعامل مع العرب وفهمهم، وللاستعانة بها في تجنيد العملاء، والتحقيق مع السجناء والأسرى، بل ذهبت حكومة الكيان الصهيوني إلى ما هو أبعد من ذلك إذ قررت تدريس العربية في مدارسها، معتمدة في ذلك مناهج تخدم مخططاتهم، تفوح بالكيد للعرب والعربية وللإسلام والمسلمين؛ مما يأتي منسجما مع بعض الدعوات الهدامة التي دعا إليها بعض المستشرقين ومريدوهم في النصف الأول من القرن العشرين كاعتماد العامية، والتقليل من شأن العربية ورسمها ونحوها.

*******

وختاما لهذا البحث نستطيع أن نقول، إن تعلُّم لغة قوم آخرين قد يكون لعد أسباب، في مقدمتها انك بذلك تستطيع أن تتقي شر أهلها ، وتأمن مكرهم استنادا إلى المأثور الإسلامي" من تعلم لغة قوم أمن مكرهم" ومن هنا كان الدعوة الإسلامية لتعلم لغة الآخر. ويذكر يحيى جبر أنه كان صحبة نفر من زملائه المدرسين الفلسطينيين في الصحراء الكبرى، وتوجهوا لشراء ذبيحة من بعض التبو التشاديين، وكانوا يتكلمون لغة التيدا من اللغات النيلية التشادية، فنشب خلاف بينهم على الثمن، فتفوه احدهم بكلمات فاحشة الدلالة بلغته، وكان يحيى جبر يعرف قسطا من مفردات تلك اللغة فعنّفه ما أدى إلى خجله واعتذاره.

وأن تعلم لغة الآخر يؤدي إلى تلاقح المعارف، ونجاعة الحوار الحضاري، وانتقال المعارف والعلوم من أمة لأمة، ما يأتي منسجما مع نواميس الحياة المدنية.

كما أن تعلم لغة الآخر قد يتخذ أداة لاختراق الآخر والكيد له، على نحو ما تشير إليه بعض الأنشطة الاستشراقية قديما وحديثا. وفي العصر الحديث أصبح تعلم العربية وسيلة من وسائل تمرير المخططات الأجنبية العدوانية على نحو ما بينّاه من توجه الأمريكان والكوريين الجنوبيين والإسرائيليين وغيرهم لدراسة العربية وتعلمها.

إن في ما تمارسه بعض المؤسسات الأجنبية من أنشطة ظاهرها حب العربية والرغبة في تعلمها، وأن ذلك إنما يأتي احتفاء بها، هو في حقيقة المر موجه لتحقيق مآرب عدوانية، وسم في دسم، ينبغي أن نحتاط له ونكون منه على حذر شديد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهوامش والمصادر:

(1)   إدريس؛ محمد جلاء. الاستشراق الإسرائيلي في الدراسات العبرية المعاصرة. مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2003م. 1424هـ. ص11

(2)       يفوت؛ سالم. حفريات الاستشراق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1989، ص8

(3)   المقداد؛ محمد. تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، سلسة عالم المعرفة (167) المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1992،ص9

(4)   عمايرة؛ إسماعيل أحمد. بحوث في الاستشراق واللغة. دار البشير، عمان ـ الأردن، مؤسسة الرسالة، بيروت ص 328.

(5)   عمايرة؛ إسماعيل أحمد. بحوث في الاستشراق واللغة. دار البشير، عمان ـ الأردن، مؤسسة الرسالة، بيروت ص 328 ـ 329

(6)   إدريس؛ محمد جلاء. الاستشراق الإسرائيلي في الدراسات العبرية المعاصرة. مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2003م. 1424هـ.ص 21

(7). عمايرة؛ إسماعيل أحمد. بحوث في الاستشراق واللغة. دار البشير، عمان ـ الأردن، مؤسسة الرسالة، بيروت ص300  

(8) " سليمان؛ توفيق. نقد النظرية السامية ج1 / أسطورة النظرية السامية/ دمشق 1982 ص 26

(9)" شاخت، تراث الإسلام، ترجمة زهير السمهوري، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ج 1، 1978. ص39.

(10) عن عدد الترجمات التي قام بها المستشرقون ولغاتها انظر: زقزوق؛ محمد حمدي. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، دار المنار، ط2، 1989،ص78

(11) سليمان؛ توفيق. نقد النظرية السامية ج1 / أسطورة النظرية السامية/ دمشق 1982  ص 28

(12) Dugat, G, Histoire des Orientalistes de L Europe, 2t, Paris. 1868 _ 1870, p. xxxvi نقلا عن المقداد؛ محمد. تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، سلسة عالم المعرفة (167) المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1992،ص 188

(13) إدريس؛ محمد جلاء. الاستشراق الإسرائيلي في الدراسات العبرية المعاصرة. مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2003م. 1424هـ.ص67

(14) زقزوق؛ محمد حمدي. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، دار المنار، ط2، 1989، ص38

(15) ، انظر :عمارة، محمد ، " الأمة العربية وقضية الوحدة ". دار الوحدة ، بيروت ، 1984م ، ص 75 ، ملاحظات انتقادية حول المسألة الاقتصادية للينين.

(16) عمايرة؛ إسماعيل أحمد. بحوث في الاستشراق واللغة. دار البشير، عمان ـ الأردن، مؤسسة الرسالة، بيروت.ص 378

(17) انظر الترجمة التي قامت بها "أني ماري شمل" لحياة "يوسف فون هامر"، وهي منشورة في كتاب: "المستشرقون الألمان"، جمع صلاح الدين المنجّد، دار الكتاب الجديد، بيروت 1982م، ص 27

(18) رينو؛ جوزيف. الفتوحات الإسلامية في فرنسا وإيطاليا وسويسرا في القرون: الثامن والتاسع والعاشر الميلادي، تعريب إسماعيل العربي، الجزائر 1984م. ص246

(19) أ. ج . آربري، المستشرقون البريطانيون، تعريب محمد الدسوقي النويهي، لندن 1946م. ص12