تحقيق أعلام الطريق التي سلكها المتنبي من مصر إلى الكوفة فارا من كافور( مجلة مجمع مصر)

yahyaj's picture
Year: 
2009

 

تحقيق أعلام الطريق

التي سلكها المتنبي هاربًا من الفسطاط إلى الكوفة

من 9 ذي الحجة 350 إلى ربيع الأول سنة 351

للأستاذ الدكتور يحيى جبر 

 

تمهيد :

     تجمع المصادر التاريخية على أن أبا الطيب المتنبي ضاق ذرعًا بالحياة في رحاب كافور الإخشيدي لأسباب مختلفة أبرزها منـزلة كافور الاجتماعية ، وأنه لم يحظ لديه بما كانت تطمح إليه نفسه ، غير أن كافورًا لم يكن ليخلي سبيله ، فهو يخشى إن أفلت من يده أن يوسعه هجاءً وذمًّا مثلما أوسعه مدحًا ، وقد كان يعلم أنه الشاعر الذائع الصيت، وأن شعره سرعان ما يستطير في الآفاق ، ولذلك كان كل منهما يُحاذر من الآخر، ويتوجس في نفسه منه .

     ولكنَّ أبا الطيب، وهو الشاعر الفارس الذي لم يستقر به المقام طويلاً في أي بلد، أبت نفسه إلا تحررًا، فاتخذ البيداء قلوصًا، ولاذ بجانبها على نحو ما كان من شأن العرب في قول الأخنس :

           لكل أناس من معد عمارة                   عروض إليها يلجؤون وجانب

وقول الذبياني :

         فموضع البيت في صماء مظلمة                      تقيد العير لا يسري بها ساري 

        تدافع الناس عنها حين نركبها                            من المظـالم تـدعى أم صـبار

أو كقول أحدهم :

          قد شمرت عن ساقها فشمري                        واتخـذي الليل قلوصًا تظـفري

      

 

ودبر أمره بليل ، وأعد لفراره العدة في صمت وتكتم ، واهتبل فرصة اشتغال كافور يوم عرفة بأعطيات الجند ، وولى وجهه شطر المشرق،وبه عن طريق الشام حيدة ، وعن درب الحج ازورار كيلا يسهل على كافور طلبه . وكان أبو الطيب قد جسّ نبض كافور إذ استأذنه في الخروج إلى الرملة ( من أرض فلسطين) لغرض يقضيه ، فأبى وقال له: نكفيك ذلك ، ونرسل من يقضيه لك .

     وكانت الطرق والدروب السالكة تحت سيطرة ولاته وعماله ، الأمر الذي جعل أبا الطيب يسلك طريقًا مجهولاً ، على نحو ما ذكره صاحب الإيضاح من أنه سار "على الحلل والأحياء والمفاوز المجاهيل والمناهل  والأواجن ". ( خزانة الأدب 2/3353).

     ومن هنا نستطيع أن نؤكد أن أبا الطيب لم يمر ببلبيس في رحلته هذه ، وذلك أنه كتب إلى عاملها عبد العزيز بن يوسف الخزاعي يطلب منه دليلا ، فأنفذه إليه ، ولو كان يخطط للمرور بها، وهي على طريق الشام، لما أنفذ الدليل إليه.وقد مدحه بقصيدة مطلعها:(ديوانه ص556)

             جزى عربا أمست بِبُلْبَيس ربها       بمسـعاتها تقـرر بذاك عيونها

وهذا يناقض ما أورده عبد الوهاب عزام في ذكرى أبي الطيب نقلاً عن مخطوطة وقف عليها من أن أبا الطيب قصد عبد العزيز الخزاعي في بلبيس ، ونزل عنده حين مر ببلده هاربًا . وربما أوهم بعض حاشيته أنه سيتوجه إلى هناك للتضليل ، وهذا يفسر ما أقدم عليه كافور إذ كتب إلى عماله بالحوفين والجفار وغزة والشام وجميع البوادي ظنًّا منه أنه سلك طريق الساحل إلى بلاد الشام(ذكرى..ص136) وكان المتنبي قد حمل من الماء على الإبل من نهر النيل عُدة لعشر ليال ، وتزود من المؤونة لمدة عشرين يومًا . ونورد فيما يلي قصة خروجه العجيبة نقلاً عن عبد الوهاب عزام في " ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام " ( ص 137 - 142  .

     " وكانت للأسود عليه عيون . وكان جميع جيرانه يراعونه حتى كان قوم يسهرون حذاء منـزله يتفقدونه ويتعرفون من يدخل إليه ويخرج من عنده. ويفد كل يوم صاحب الخبر إلى بابه ، حتى يقف على حاله . وهو يعلم بذلك فلا يظهره لهم .

     وكان يتسلّى بفاتك والحديث معه . وتوفى فاتك فعمل أبو الطيب على الرحيل . وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في رفق ولطف لا يعلم به أحد من غلمانه ، وهو يظهر الرغبة في المقام. وطال عليه التحفظ ، فخرج ، فدفن الرماح في الرمل ، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل عُدَّة لعشر ليال ، وتزود لعشرين .

     وكتب إلى عبد العزيز بن يوسف الخزاعي " الأبيات التي قدَّمتُها " وأخفى طريقه ، فلم يأخذوا له أثرًا حتى قال بعض أهل البادية :

هبه سار فهل محا أثره .

وقال بعض المصريين :

إنما أقام حتى عمل طريقًا تحت الأرض.

وتبعته البادية والحاضرة ومن وثقوا به من الجند ، وكتبوا إلى عمالهم بالحوفين والجفار وغزة والشام وجميع البوادي .

"وعبر أبو الطيب بموضع يعرف بنجة الطير ، إلى الرثنة " ، حتى خرج إلى ماء يعرف بنخل في التيه بعد أيام ، وتسميه العامة بحرا فلقى عنده في الليل ركبًا وخيلا صادرة عنه ، فقاتلوه فأخذهم . وتركهم ، وسار حتى قرب من النِّقاب ، فرأى رائدين لبنى سُليم على قلوصين . فركب ، وطردهما حتى أخذهما ، فذكرا له أن أهلهما أرسلوهما رائدين ، ووعداه النـزول ذلك اليوم بين يديه . فاستبقاهما ، ورد عليهما القلوصين وسلاحهما . وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سُليم آخر الليل . فضرب له ملاعب بن أبي النجم خيمة بيضاء ، وذبح له ، وغدا ، فسار إلى النقع ، فنـزل ببادية من معن وسُنبُس . فذبح له عفيف المعنيّ غنمًا وأكرمه ، وغدا من عنده وبين يديه لصّان من جُذام يدلانه في الطريق . فصعد في النقب المعروف بتربان ، وفيه ماء يٌعرف بغرندل فسار يومه وبعض ليلته ، ونزل وأصبح فدخل حِسْمى .

     وحسمى هذه أرض طيبة . تؤدي أثر النحلة من لينها . وتنبت سائر النبات مملوءة جبالا في كبد السماء متناوحة مُلس الجوانب ، إذا نظر الناظر إلى قلّة أحدها فتل عنقه حتى يراها ، بشدة ، ومنها ما لايقدر أحد أن يصعده . ولا يكاد القتام يفارقها . وذلك معنى قول النابغة :

فأصبح عاقلاً بجبال حسمى

      دُقاق التُّـرب محتـزم القـتام

وقد اختلف الناس في تفسير هذا البيت ولم يعلموا ما أراد . وبكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين ، يعرفها من رآها من حيث رآها ، لأنها لا مثيل لها في الدنيا ، ومن جبالها جبل يُعرف بأرَم ، عظيم العلوّ، تزعم البادية أن عليه كرومًا وصنوبرًا .

     فوجد بني فزارة شاتِين بها، فنـزل بقوم من عديّ فزارة فيهم أولاد لاحق ابن مخلب . وكان مخلب هذا خرج يطلب ناقة له فقدها . وكانت فزارة قد أخذت غزيّا غزاها ، فكانت الأسرى في القِدّ بين البيوت ، فسمعه بعض الأسرى ينشد الناقة . فقال: هي بموضع كذا وكذا، وجدناها أمس ، فشربنا لبنها ، وتركناها لنعود فنأخذها ، فنادى مخلب: على شهادتكم يا معشر العرب . ثم عاد فلبس سلاحه وركب فرسه فقال : الغزيّ ضيوفي . فخلّصهم من القِدّ بعد اختلاف الناس وخوف الشر . فردّ عليهم كل شيء أخذ لهم ، وقراهم وسيرهم وقال :

إن تك ناقتي منعت غزيًّا

      تجر صـرارها ترعى الرحـابا

فأي فتى أحق بذاك مني

      وأجدر في العشـيرة أن يهـابا

     وكان بينه وبين أمير بني فزارة حسان بن حكمة مودة وصداقة ، فنـزل بجار للقوم ليوارى عنهم فلا يُعلم بما بينه وبينهم ، واسم الجار وردان بن ربيعة من طيء ، ثم من معن ، ثم من بني شبيب . فاستغوى عبيده، وأفسدهم عليه، وأجلسهم مع امرأته ، فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله .

     وطابت حِسمى لأبي الطيب ، فأقام بها شهرًا ، وكتب الأسود إلى من حوله من العرب ووعدهم . وظهر لأبي الطيب فساد عبيده ، وكان الطائي يرى عند أبي الطيب سيفًا مستورًا فيسأله أن يريه إياه فلا يفعل ، لأنه كان على قائمه ونعله ذهب من مئة مثقال . وكان السيف لا ثمن له . فجعل الطائي يحتال على العبيد بامرأته طمعًا في السيف ، لأن بعضهم أعطاه خبره .

     فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد، ووقف على مكاتبة الأسود لكل العرب التي حوله في أمره ، أنفذ رسولاً إلى فتى من بني فزارة ثم من بني مازن ، ثم ولد هرم بن قطبة بن سَيَّار ، يقال له  فليتة ابن محمد . وفيهم يقول بعض البادية :

إذا ما كنت مغتربًا فجاور

      بني هـرم بن قُطـبة أودثـارا

إذا جاورت أدني مازنيّ

      فقد ألـزمت أقصـاها الجوارا

وكان قد وافقه قبل ذلك على المراسلة . فسار إليه . وترك أبو الطيب عبيده نيامًا، وتقدم إلى الجمال ، فشد على الإبل وحمل خوفًا أن يحتبس عنه بعض عبيده ، فلم يعلموا حتى أنبههم ، وطرحهم على الإبل ، وجنّب الخيل ، وسار تحت الليل، والقوم لا يعلمون برحيله ، ولا يشكون أنه يريد البياض ، فأخذ طريق البياض ، فلما صار برأس الصوان أنفذ فليتة بن محمد إلى عرب بين يديه ، وتوقف .

     وأخذ أحد العبيد في الليل السيف ، فدفعه إلى عبد آخر ، ودفع إليه فرسه ، وجاء ليأخذ فرس مولاه ، وانتبه أبو الطيب . وقال الغلام : أخذ العبد فرسي. يغالط بهذا الكلام . وعدا نحو الفرس ليقعد في ظهره ، فالتقى هو وأبو الطيب عند الحصان، وسلّ العبد السيف، فضرب رسنه، فضرب أبو الطيب وجه العبد فقسمه (فخرّ على رتمة ) وأمر الغلمان فقطعوه . وانتظروا الصباح . وكان هذا العبد أشد من معه وأفرسهم (الرتم: شجر له أغصان مُلس دقاق سباط والواحدة رتمة)

     فلما أصبح أتبع العبد عليًّا الخفاجي وعلوان المازني ، وأخذا أثره فأدركاه عصرًا ، وقد قصّر الفرس الذي تحته ، فسألهما عن مولاه ، فقالا: جاءك من ثمّ، وأشارا إلى موضع ، فدنا منهما كالعائذ وهو يتبصر . فقالا له : تقدم . فقال : ما أراه ، فإن رأيته جئتكما ، وإن لم أره فما لكما عندي إلا السيف . فامتنع منهما. وعادا في غد ، ووافق عودة فليتة، فقال فليتة : لقد كان فيما جرى خيرة ، لأن الوقت الذي اشتغلتم بقتله فيه ، كانت سرب الخيل عابرة مع ذلك العلم، ولو كنتم زلتم عن موضعكم لحدّث بعضكم بعضًا ، فقال أبو الطيب  ارتجالاً:

لَئِنْ تَكُ طَيِّـئٌ كَانَتْ لِئَامًا

      فَأَلأَمُـهَا رَبِيــعَةُ أَوْ بَنُـوهُ

وَإِنْ تَكُ طَيِّـئٌ كَانَتْ كِرَامًا

      فَــوَرْدَانٌ لِغَـيْرِهِم أَبُـوهُ

مَرَرْنَا مِنْهُ فِي حِسْمَى بِعَبْدٍ

      يَمُـجُّ الُّلـؤْمَ مَنْخِـرُهُ وَفُوهُ

أَشَذَّ بِعُرْسِهِ عَنِّي عَبِيدِي

      فَأَتْلَفَـهُمْ ، وَمَـالِي أَتْلَفُـوهُ

فَإِنْ شَقِيَتْ بِأَيْدِيِهمْ جِيَادي

      لَقَدْ شَـقِيَتْ بِمُنْصُلِيَ الوُجُوهُ

وقال فيه :

لَحَى اللهُ وَرْدَانًا وَأُمًّا أَتَتْ بِهِ

      لَهُ كَسْبُ خِنْـزِيرٍ وَخُرْطُومُ ثَعْلَبِ

فَمَا كَانَ مِنْهُ الْغَدْرُ إِلاَّ دَلاَلَةً

      عَلَى أَنَّـهُ فِيـهِ مِنَ الأُمِّ بِالأَبِ

إِذَا كَسَبَ الإِنْسَانُ مِنْ هَنِ عِرْسِهِ

      فَيَا لُؤْمَ إِنْسَـانٍ وَيَا لُؤْمَ مَكْسَبِ

أَهَذَا اللَّذَيَّا بِنْتُ وَرْدَانَ بِنْتُه

      هُمَا الطَّالِبَانِ الرِّزْقَ مِنْ شَرِّ مَطْلَبِ

لَقَدْ كُنْتُ أَنْفِى الْغَدْرَ عَنْ تُوسِ طَيِّـئ

      فَلاَ تَعْذِلاَني رُبَّ صِدْقٍ مُكَذَّبِ

وقال أيضًا ( في العبد الذي قتله ) :

أَعْدَدْتُ لِلغَادِرينَ أَسْيَافًا

      أَجْـدَعُ مِنْهُـمْ بِهِـنّ آنَـافَا

لا يَرْحَمُ اللهُ أَرْؤسًا لَهُمْ

      أَطَـرْنَ عَنْ هَـامِهِنَّ أَقْـحَافَا

مَا يَنْقِمُ السَّيْفُ غَيْرَ قِلَّتِهِمْ

      وَأَنْ تَـكُونَ المِئُـونَ آَلاَفَــا

يَا شَرَّ لَحْمٍ فَجَعْتُهُ بِدَمٍ

      وَزَارَ لِلْخَـامِعَاتِ أَجْــوَافَا

قَدْ كُنْتَ أُغْنِيتَ عَنْ سُؤالِكَ بِي

      مَنْ زَجَـرَ الطَّيْرَ لِي وَمَنْ عَافَا

وَعَدْتُ ذَا النَّصْلَ مَنْ تَعَرَّضَهُ

      وَخِفْتُ لَمَّا اعْتَرَضْتَ إِخْـلاَفَا

لاَ يُذْكَرُ الْخَيرُ إِنْ ذُكِرْتَ وَلاَ

      تُتْبِـعُكَ المقْلَتَـانِ تَوْكَـافَا

إِذَا امْرُؤٌ رَاعَنِي بِغَدْرَتِهِ

      أَوْرَدْتُهُ الغَـايَةَ الَّتِي خَــافَا

     وسار أبو الطيب حتى نظر إلى آثار الخيل . ولم يجد فليتة خبرًا عن العرب التي طلبها . فقال له: أخرق بنا ، على بركة الله ، إلى دُومة الجندل ، وذلك أنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمى قد علمت أنه يريد البياض ، فسار حتى انحدر إلى الكفاف ، فورد البويرة بعد ثلاث ليال ، وأدركتهم لصوص أخذت آثارهم وهم عليها ، فلم يطعموا فيهم . وسار معهم حمصي بن القلاّب .

     فلما توسط بُسيطة ( وهي أرض تقرب من الكوفة ) رأى بعض عبيده ثورًا يلوح ، فقال : هذه منارة الجامع . ونظر آخر إلى نعامة في جانبها الآخر . فقال: وهذه نخلة . فضحك أبو الطيب، وضحكت البادية فقال :

بُسيطة مهلاً سقيت القطارا

      تركت عيون عبيدي حيارا

فظنوا النعام عليك النخيل

      وظنوا الصوار عليك المنارا

فأمسك صحبي بأكوارهم

      وقد قصد الضحك فيهم وجارا

وورد العقدة بعد ليال ، وسقى بالجراوي، واجتاز ببني جعفر بن كلاب. وهم بالبريت والأضارع ، فبات فيهم ، وسار إلى أعكش حتى ورد الرُهيمة . ودخل الكوفة في شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة " فقال قصيدته التي مطلعها :

ألا كل ماشية الخيزلى

      فدى كل ماشية الهيذبى

وذكر فيها المواضع التي مر بها

قلت : وجبل أرم المذكور هو جبل رم الواقع إلى الشمال الشرقي من العقبة ، وجنوب القويرة وإلى الشمال من جبلي أم طلحة وجبل القطر .

ولنا على هذه القصة مأخذ نجمله في:

     أنه ورد فيها أن بُسيطة أرض تقرب من الكوفة،وما هو بصحيح، إنما الصحيح أنها بين حسمى والجوف إلى الجنوب من شبيكة . وهذا الخبر الذي ساقه عن بعض عبيد أبي الطيب وما رأوه من النعام والمها حقه أن يتقدم فيأتي في خبر حسمى ، وقد خرج منها إلى عقدة الجوف ، وهو الكلام الذي جاء عقب ذلك ، ذلك أن بسيطة تناصي حسمى، بينها وبين الجوف ، وورد في القصة أنه "ورد العقدة بعد ليال وسقى بالجراوي " وهذا يوحي بأن الجراوي يلي الجوف على طريقه قبل المشرق ، ولكن الصحيح أنه يقع غربي الجوف على الطريق إليها .

     وأغلب الظن أن المتنبي سلك طريقًا يوازي طريق القاهرة السويس الصحراوي إلى الشمال قليلاً من خط عرض 30 درجة شمالاً ، وهذا الخط الذي يبدو أن جل المواقع التي سلكها تقع عليه أو إزاءه يمنيًا أو يسارًا بمسافات قصيرة إلى أن دخل الجوف ( في شمال المملكة العربية السعودية اليوم ) . إذ أخذ يتجه منها صوب الكوفة التي تقع على خط العرض 32 درجة شمالاً .

     وربما كان الطريق الذي سلكه المتنبي هو ما عرف في تاريخ سيناء باسم درب الشعوى الذي يبدأ قريبا من رأس خليج السويس ، ويسير إلى الجنوب أكثر من درب الحج إلى أن ينتهي عند العقبة (عبد الرحمن زكي 80 ) ونعتقد أنه توجه للكنتيلا بعد نخل مباشرة ، ولم يتجه إلى الثمد والعقبة ، والشعوى هي الشعواء مقصورة أو العشواء مقصورة مقلوبة لوعورتها ومخاطرها .

     وهذا الطريق كان مستخدمًا قبل درب الحج - على الأرجح - وقد سلكته جيوش صلاح الدين أثناء الحروب الصليبية ، عندما توجه لضرب حاميتي الكرك والشوبك ، وأبرز منازل هذا الطريق :شط السويس ، ثم ممر متلا ، فوادي الراحة ، إلى أرض التيه شمال عين صدر ( حيث تقوم قلعة صلاح الدين ) وفي هضبة التيه يسير الدرب شرقًا قاطعًا أعالي فروع البروك أولاً ثم يقطع وادي العريش نفسه شمال بئر أم سعيد بقليل ، ومنه إلى روافد وادي العريش الشرقية ، أي طريفية ووادي الرواق ، فالفيحي فوادي القريص ( حيث تقع بئر القريص) حتى يصل إل الثمد(عبد الرحمن زكي32)

     ونعتقد أن المتنبي تقدم من وادي النثيلة إلى نخل ، فجبل أم علي ووادي العقبة ، فوادي المهشم . ولاشك في أن رحلة أبي الطيب كانت مقامرة على نحو ما يجسده قوله في إبله ( ديوانه 552 )

ضربت بها التيه ضرب القما

      ر إمـا لهـذا وإمـا لــذا

أي لنجاحٍ أو هلاك ، فكأنه امرؤ القيس إذ قال لصاحبه وقد بكى لما رأى الدرب دونه :

فقلت له : لا تبك عينك إنما

      نحاول ملكًا أو نمـوت فنـغدرا

" ومن الصعوبات التي كان يصادفها المسافرون بين السويس وهضبة التيه - منطقة الكثبان التي يصعب فيها سير الناس والجمالوالصعوبة الثانية نقب العقبة الذي كان على المسافرين أن يعبروه للوصول إلى العقبة . وهذا الجزء هو أشد أجزاء الطريق وعورةأما الصعوبة الثالثة : فهي مشكلة الماء في كميته ونوعه ، فالآبار الموجودة في الطريق محدودة جدًا ، ولا نصادف الماء إلاّ حول نخل ، وفي بعض آبار متفرقة حول الثمد وهذا الماء لا يشربه المسافر إلاّ مضطرًا لقلة عذوبته وكثرة أملاحه " ( عبد الرحمن زكي 30،31 )، ومن ذلك بير المر وبير المبعوق شرق السويس.

     وقد صادف خروج المتنبي من مصر شتاء عام 961م بدليل أنه دخل حسمى شتاء كما سيأتي ، و"أن أفضل شهور السنة لزيارة سيناء ، بل أجمل فصولها للسفر فيها والنـزهة والسياحة هي الفترة التي بين آخر فبراير ( شباط ) والنصف الأول من شهر مايو ( أيار ) والتي بين أوائل شهر أكتوبر ( تشرين أول ) ومنتصف نوفمبر ( تشرين ثان ) (أبو الحجاج ص 125 ) ، ونورد فيما يلي أسماء البلدان والمواقع التي مرّ بها مجتهدين في تحديد مواقعها ، وسنذيل البحث بخريطة نتتبع فيها أعلام الطريق .

نجهُ الطير ( نجّة الطير )

     جاء في خبر المتنبي أنه خرج من الفسطاط إلى هذا الموضع . قال ياقوت ، وضبطه دون إعجام الهاء : موقع بين مصر وأرض التيه . قلت : وما بين مصر ( القاهرة ) وأرض التيه ( سيناء ) هو صحراء قاحلة ، يخترقها الطريق المؤدي إلى السويس . ونعتقد أن الموضع المذكور يقع بين جبلي عتاقة جنوبًا وعويبد شمالاً.

     ونعتقد أن الطريق الذي سلكه المتنبي يوازي درب الحاج المصري ، إلى الجنوب منه . وقد سلكه خوف العيون التي بثّها كافور ، ولأن المنطقة التي تقع إلى جنوب درب الحاج أوفر ماءً ، لاسيما ما كان منه في سيناء.(عبد الرحمن زكي ص 32)

     ولم نقف في مصادرنا على ذكر لهذا الموضع ، ووقفنا على موضع باسم "النواطير" الثلاثة ، وهو من منازل درب الحاج بين عجرود والعلوة إلى الشمال الشرقي من السويس ، ولا نستبعد أن يكون طريقه قد تقاطع مع درب الحاج في ذلك الموضع ، وأن تحريفًا قد اعترى اللفظ فإذا هو نجه الطير .

     وثمة احتمال آخر يتسع له المقام ، هو أن جيم " نجة " قاف في الأصل نقة، وهي في الدارجة بمعنى النقرة ، وكأن الموضع رأس جبل أو شمراخ فيه ، يتكور في أعلاه ما يشبه أثر المنقار في مادة رطبة.

     وجاء في وصف جبل حيطان (806م) الذي يحدد خانق الممر ( ممر متلا) مع جبل الجدي الذي يقع إلى الشمال منه أنه " ينتصب كالحائط " (جمال حمدان 192 ) وأن جبلاً بهذا الوصف يستهوي الطير ، وجدير بالذكر أن هذين الجبلين هما أعلى جبال تلك المنطقة ( جمال حمدان 158 ) . كما يحتمل أن يكون الموقع ماء يجتمع في نقرة صخرية على الطريق ، كأنهم شبهوه بنقرة الطير لأنها تردها . والمعروف أن المتنبي سار على المجاهيل والمناهل والأواجن .

وهنا نشير إلى أمرين :

1.     أن الطيور غالبًا ما توطن في شماريخ الجبال ، لاسيما الجواح من الطيور البرية.

2.  أن القاف تقلب جيما في بعض لهجات مصر الشرقية وسيناء ، ومن ذلك في الأعلام الجغرافية في سيناء ( جبل يلق، إذ يلفظ ويدون في بعض الكتب يلج، والقديرات، إذ تلفظ الجديرات، وعلى هذا لهجة نجد المعاصرة . وقد سألني أحدهم يوما : ما حال رفيجك يعقوب ؟ يريد رفيقك ) .

الدَّثنة ( الرَّثنة ) ( الدَّثينة )

     وهي المنـزل التالي الذي نزل فيه المتنبي ، ولم يذكره ياقوت ، وإنما ذكر الدثينة ، وقال : ماء لبعض بني فزارة . قلت : كانت فزارة أيام المتنبي تنـزل حسمى ، وله معهم صحبة ، ولعل بعضهم كانوا قد توغلوا في سيناء . وهي دون شك إلى الغرب من نخل ، ووردت في مصادر عبد الوهاب عزام ( 138 ) باسم الرثنة ، ولا نراه ، والأرجح عندنا أنها بالدال ، وهي التي ذكرها المقريزي (1/138) في خبر شداد بن هداد بن عاد ورمل الغرابي ( رمل الهبير ) إذ قال إنهم :"خرجوا من مصر إلى جهة وادي القرى فيما بين المدينة النبوية وأرض الشام ، وعمروا الملاعب والمصانع لحبس المياهوزرعوا أصناف الزراعات فيما بين راية وأيلة إلى البحر الغربي ، وامتدت منازلهم من الدثنة إلى العريش والجفار في أرض سهلة " . ( والجفار رمل شمال سيناء ) . ويطلق اسم الهبير أو الغرابي على الرمل الممتد في الأرض من وراء جبل طيـئ إلى أرض مصر … (المقريزي 1/182) أما ياقوت فجعله ما بين قطية والصالحية ، وقال : صعب المسالك ، وهذا يحصره في شمال غرب سيناء . وهو المقصود بقول الشاعر :

هي الديار فقد تقادم عهدها

      بين الهبـير وأبـرق النـعار

( ياقوت : أبرق النعار ) .

وأخيرا هل نذهب بعيدًا فنقول : لعل الرثنة هي عين الرويث الواقعة إلى الجنوب قليلا من عين سدر ، إلى الجنوب الشرقي من جبل الراحة ؟

الـتِّيـه

     والدثنة 0( أو الرثنة ) في صحراء التيه التي اجتاز مغاربها إلى نخل التي تتوسطها . ونورد فيما يلي ما ورد في بعض المصادر عن هذه الصحراء :

قال الزبيدي في حد جند فلسطين : وفي جنوبه عدم البلاد وفحص التيه . والأصل فيه المفازة ، ومفازة تيهاء : يضل سالكها ( تاج العروس ) .

وقال ياقوت : هو الموضع الذي ضل فيه موسى بن عمران عليه السلام وقومه ، وهي أرض بين أيلة ( العقبة ) ومصر وبحر القلزم ( الأحمر ) وجبال السراة من أرض الشام ( الشراة ) ويقال إنها أربعون فرسخًا في مثلها ، وقيل اثنا عشر في ثمانيةوالغالب على أرض التيه الرمال، وفيها مواضع صلبة ، وبها نخيل ، وعيون مفترشة يتصل حد من حدودها (الشمالي) بالجفار ، وحد بجبل سيناء ، وحد بأرض بيت المقدس وما اتصل به من فلسطين ، وحد ينتهي إلى مفازة في ظهر ريف مصر إلى حد القلزم (السويس) ( وانظر المسعودي - مروج الذهب 1/62 ، 120 ، 212 ،260).

قلت : إنما سميت قبيلة التياها نسبة إليه ، وتنتشر هذه القبيلة اليوم في النقب جنوب فلسطين وسيناء وجنوب الأردن.

نَخْل

     يتوسط هذا المنـزل صحراء التيه ، وقد كانت نخل مركز سيناء في الأزمنة القديمة ، لموقعة ،ولماء فيه ، ويبدو أن المتنبي مر بنخل دون أن ينـزل فيه ولو لتحليل راحلة وعير ، ولذلك قال في إبله وخيله ( ديوانه ص 552 ) .

فمرت بنخل وفي ركبها

      عـن العـالمين وعـنه غـنى

     إذ يبدو أن ماءها لا يشرب إلا من ضرورة ، ولذلك كان في ركبها عنه غني، فمر به مسرعا ، ولعله لم يكن قد اطمأن بعد إلى أنه أفلت من حوزة كافور ، وأن عيره قد فصلت ، والمسافة بين القاهرة ونخل عن طريق صدر الحيطان 160 ميلا ، وهي مسيرة نحو من خمسة أيام ، ونعتقد أن المتنبي وصل إليها ومعه بقية من ماء النيل ، إذ تزود منه لعشر ليال ، وهذا ما جعله يمر بها مسرعا، ودون أن ينـزل ، لاسيما أنه وجد عندها ركبا وخيلا صادرة عنها فقاتلوه ، وكان قد أخذهم ، فأسرع إلى النقاب .

     وقد اختلف في ضبطه ، فهو " بحر" استنادًا إلى ما ذكره عبد الوهاب عزام (138) ، وهذا محتمل ، لاستبحار موقعه واتساعه قريبًا من وادي العريش ، كما أن ثمة احتمالا آخر يتمثل في أن بعض المصادر ذكرت أن اسمها قديما كان نخر ، وكذلك سماها البكري حيث قال : وبطن نخر منهل من مناهل الحج ، وهي قرية ليس بها نخيل ولا شجر ، يسكنها نفر من الناس " ( أبو الحجاج ص121). قلت : لاشك أن عبارة البكري محرفة ، فقوله ( ليس بها نخيل ) يؤكد أن الكلمة هي " نخل " ، فكأنه يريد أن يبدي استغرابه لهذه التسمية مع أنها لا نخيل فيها. وربما نقل عنه صاحب الدرر . وهذا يجعلنا نميل إلى أن الصيغة الأخرى "بحر " هي أيضا تصحيف نخر، التي هي تحريف نخل. وقال أبو الحجاج (121) : وقيل أيضا: إنها سميت بذلك ( نخل ) لأن ترابها ناعم كأنما نخل بمنخل .

     أما عبد الرحمن زكي فذكر أن بعض الباحثين يعيدون اسمها إلى أصل عبراني هو " نخل مصرايم " أي وادي مصر الذي أطلقه العبرانيون على وادي العريش (الذي يمر إزاءها ) عبد الرحمن زكي ص97) قلت : الوادي بالعبرية ناحل ، بالحاء ، أما الذين يلفظون الحاء خاء فإنهم اليهود الإشكنازيم ، وهذا التعليل ، بذلك مستبعد ، وإنما أسمى العبرانيون وادي العريش بذلك الاسم في شمالي سيناء ( قرب مدينة العريش التي هي حد مصر شرقًا ) وليس في وسط سيناء حيث بلدة نخل . ثم إنها كانت قديمًا تزرع بالنخيل وغيره ، وعدم وجوده فيها بكثرة لا يعني أنه لم يكن ، فكم من حائط كان وأصبح موقعه اليوم خاويا لا أثر فيه لشجر .

     وقد أتيح لي أن أمر بنخل ثلاث مرات ، إذ زرت مصر عبر سيناء عامي 1986،1987م واجتزتها بسيارتي من نويبع إلى القاهرة مرورا بنخل . وقد تجددت زراعة النخيل فيها عندما أنشئت حديقتها سنة 1906م . وما نراها إلا سميت بما كان فيها قديمًا من النخيل خلافا لأبي الحجاج حافظ (ص121) .

النِّقاب

النقب هو الطريق إلى الجبل، قال الشاعر:

يناقلن بالشمط الكرام أولى النهى

      نقاب الحجاز …………

وتمتد في شرق سيناء سلسلة جبلية تنحدر غربا إلى التيه،وشرقا إلى وادي عربة الذي يمتد من البحر الميت إلى خليج العقبة في الجنوب الفلسطيني ، ومن جبال هذه المنطقة جبل أبو رضا قرب طابا ، وجبل الحمرا وجبل الصفرا وجبل سويقة وجبل أبو طوبار ، وتخترق هذه الجبال طرق (نقاب) تصل ما بين سيناء وجنوب فلسطين والأردن وشمالي السعودية ، ومن تلك النقاب نقب شتار جنوب البلقاء ، ونقب عازب جنوب فلسطين ، والنقيب بين تبوك ومعان ( ياقوت ) ونقب تربان الآتي ذكره ورأس النقب إلى الغرب من العقبة شمال طابا ، وآخر شمال شرق القويرة على الطريق من معان للعقبة .

     ولم يمر المتنبي برأس النقب المفضي إلى ميناء العقبة ، لأنه قصد " تربان " الواقع إلى الجنوب الغربي من معان الأردنية ، حيث عين غرندل . وهذا يؤكد أنه توجه من نخل إلى تربان عبر نقاب الكونتيلا ، مجتازا جنوب جبل أم علي ووادي العقبة ( وهي غير العقبة المدينة المعروفة ) ووادي المهشم ثم الكونتيلا التي تقع قريبا من ملتقى وادي البيضا مع وادي الجرافي الذي يتجه جنوب "النقب" في جنوب فلسطين .

     ونعتقد أن جبال شرق سيناء تمثل امتدادًا لجبال حسمى الواقعة إلى الشرق من خليج العقبة ، وقد أتيح لنا أن نزور السلسلتين ، ورأينا فيهما من التشابه ما يجزم بما قدمنا ، لاسيما أننا نعرف من خبر الخسف وتكون البحر الأحمر وخليجيه ما يؤكد أن المنطقتين كانتا رتقا من قبل . ويبدو أن الماء قد غمرهما ردحا من الزمن ، فأنت ترى الجبال مستوية أعاليها شديدة الانحدار أسنادها . وتصدق هذه المواصفات ما ورد في بعض كتب البلدان عن حسمى من أنها آخر مكان جلا عنه الطوفان ( ياقوت ) .

     ومن وصل إلى النقاب فعليه أن يحدد وجهته أين يريد ، فإن كان يريد الجزيرة فعليه أن يتجه جنوبا صوب العقبة على طريق الحاج إلى وادي القرى الواقع إلى الشمال من المدينة المنورة ، ومن أراد الشام والعراق فعليه أن يتوجه شمالا إلى تربان فمعان فوادي المياه من ديار كلب ببادية الشام ، فالسماوة إلى العراق ، أو يتجه من معان شمالا على درب الحج الشامي . وهذا ما ألمح إليه المتنبي بقوله : ديوانه ( 552 ) :

     وأمسـت تخيرنا بالنقا

      ب وادي الميـاه ووادي القرى

وكان عليه أن يقول " أو" وادي القرى، لمقتضى النحو . وقد أخطأ من قال إن "النقاب" في هذا البيت موضع قرب المدينة، متوهما ذلك في ذكر وادي القرى (ياقوت واليازجي) ، لأن أبا الطيب لم يتجه جنوبًا لأبعد من حواشي حسمى الشمالية .

     ويؤكد قول المتنبي " وأمست " أن عيره مرت بنخل آخر الليل ، فلم يأت المساء من اليوم التالي حتى وصلت إلى النقاب ، وهذا يؤكد أنه لم يمر بالثمد لأن ذلك يعني أنه قطع في ذلك النهار مسافة 73 ميلا ، أي ما يعادل 120 كيلو مترا تقريبا،إذ المسافة من نخل للثمد 39 ميلا ، ومنه إلى الكونتيلا 34ميلا. والأقرب منه أن يكون قد اجتاز وتر المثلث من نخل إلى الكونتيلا ، أي ما يقدر بتسعين كيلو مترا ، وهذه المسافة أيضا تعتبر أطول من مسيرة الراكب اثنتي عشرة ساعة ، لأنه لا يمكن أن يقطعها شَدّة واحدة ، مما يجعلنا نميل إلى أنه كان مساء ذلك اليوم قد أخذ في أول النقاب وأنه اجتاز السلسلة الجبلية مع الليل ، ما لم يكن عرس في وادي الجرافي وأصبح مصوبا نحو وادي عربة إلى تربان على نحو ما نجده في الخبر التالي .

     وذكر ياقوت موضعا باسم النقار ، وجاء في تعريفه أنه موضع في البادية بين التيه وحسمى ، له ذكر في خبر المتنبي لما هرب من مصر . قلت : بل هو النقاب محرفا . وكان دخوله النقاب آخر النهار إذ رأى رائدين لبنى سليم على قلوصين ، فركب وطردهما حتى أخذهما ، فذكرا له أن أهلهما أرسلوهما رائدين ووعداه النـزول ذلك اليوم بين يديه ، فاستبقاهما ورد عليهما القلوصين وسلاحهما ، وسارا معه حتى توسط بيوت بنى سليم آخر الليل ، فضرب له ملاعب ابن أبي النجم خيمة بيضاء وذبح له وغدا فسار إلى النقيع .

النَّقيع

     جاء في خبر المتنبي أنه اجتاز النقاب إلى موضع يعرف باسم النقع ( عزام ص 138) وذكره ياقوت باسم "البقع" وقال هو من ديار أبي بكر ، وأن المتنبي صدر عن ذلك الماء وصعد في النقب المعروف بتربان، كما ذكر " البقع " وهو موضع بالشام من ديار كلب بن وبرة . أما البديعي (ص126) فذكر الموقع باسم النقيع ، وقد اعتمدناه لعلاقته بالماء ، وهو أصلا الماء ينقع أو يستنقع في موضعه ، وهناك أكثر من " نقيع " في جنوب فلسطين والأردن ، ومن ذلك نقيع غور الصافي في جنوب البحر الميت. ولا شك أن هذا الموضع يتوسط المسافة بين نقاب الكونتيلا في شرق سيناء وجبل تربان جنوب الأردن ، وفي وادي عربة .

     ونزل المتنبي في هذا الموقع ( النقيع ) ببادية من معن وسنبس ، فذبح له عفيف المعنيّ غنما وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه لصان من جذام يدلانه في الطريق،فصعد في النقب المعروف بـتِربان.

تِربان

وفيه قال المتنبي يخاطب ناقته :

وقلنا لها : أين أرض العراق

      فقـالت ، ونحن بتـربانهـا

وقد أخطأ من ذهب إلى أن تربان هذا يقع قريبا من المدينة ، وإن كان هناك موضع يعرف بهذا الاسم ، وهو بعيد من العراق أيضًا ، أما قوله على لسان ناقته : ها ، فالإشارة إلى نجابتها وجَلَدها وسرعتها.

ونعتقد أنه المقصود بقول حسان بن ثابت ( ديوانه ص 368 ) .

فلما علا تربان وانهل ودقه

      تداعى وألقى بركه وتهزما

وهو في مطر غزير ، والمعروف أن مطر تلك المنطقة من جنوب الأردن يكون غزيرا . ونعتقد أن عرب الترابيين من بادية سيناء والنقب وبادية الشام إنما سموا لعلاقة بهذا الجبل ونسبة إليه،وفيه غرندل المشهورة بعينها وقد فتحت أيام عمر بن الخطاب بعد اليرموك،وذكر القلقشندي أنها كانت عاصمة لمقاطعة الكرك وأطرافها ذات يوم(عن بلدانية فلسطين ص 195 ) .

وسار المتنبي بقية يومه وبعض ليلته ، ونزل ، فأصبح فدخل حسمى .

حِسْمَى

قال المتنبي في عيره ( ديوانه ص 552)

وهبت بحسمى هبوب الدبو

      ر مستقبلات مهب الصبا

يريد أن ركبه استشعر هنا مزيدا من النشاط ، فانطلقوا في حسمى كريح الدبور الغربية مولين قبل المشرق من حيث تهب ريح الصبا . وقد دخلوا حسمى أواخر الشتاء إذ طابت له فأقام بها شهرا ( عزام 139 ) ولا يكون ذلك إلا في أعقاب الشتاء حين تزدهي البادية بالأب ويطيب الهواء .

جاء في خبرها : أنها تقع في الطرف الشمالي من حرة بهل ( الهجري ص 231 ) .

وقال البكري ( 2/446 ) موضع من أرض جذام ، ويقال : إن الماء بقي بحسمى بعد نضوب الماء في الطوفان ثمانين سنة ، ومنه بقية إلى اليوم ، فهو ماء حسمى ، ذكره ابن دريد وغيره . وقال عنترة : ( شرح ديوانه 37،38 )

سيأيتكم عني - وإن كنت غائبا

      دخان العلندى دون بيتي مذود

قصائد من قيل امرئ يحتديكم

      وأنتم بحسمى فارتدوا وتقلدوا

يخاطب بني فزارة ، وقال ياقوت : هو أرض ببادية الشام بينها وبين وادي القرى ليلتان ، وأهل تبوك يرون جبل حسمى في غربيهم ، وفي شرقيهم شرورى ، وبين وادي القرى والمدينة ست ليال . قال الراجز :

جاوزن رمل أيلة الدهاسا

      وبطن حسمى بلدا هرماسا

( في الجمهرة 3/386 هرماسا ) ، أي واسعا ، وأيلة قريبة من وادي القرى ، وحسمى أرض غليظة ، وماؤها كذلك لا خير فيه ، تنـزلها جذام .

وقال ابن السكيت : حسمى لجذام ، جبال وأرض بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل الذي يلي أيلة ، وبين أرض بني عذرة من ظهر حرة نهيا - بهل - فذلك كله حسمى . قال كثير :

سيأتي أمير المؤمنين ودونه

      جماهير حسمى قورها وحزونها

وفي أخبار المتنبي وحكاية مسيره من مصر إلى العراق ، قال : حسمى أرض طيبةكما تقدم .

ومن جبال حسمى جبل يعرف بأرم ، عظيم العلو ، وعن البكري ( 2/448 ) أن أسامة بن زيد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : بشر ركيب السعادة بقطع من جهنم مثل قور حسمى . وقال ابن دريد ( الجمهرة 3/386 ، 3/409 ) : حسمى تقدير فعلى ، وهو ماء معروف لكلب .

وقال الهمداني ( ص 272 ) : وأما حسمى فبين فزارة ، وجذام ، وهي من حدود جذام ، وبحسمى بئر أرم من مناهل العرب المعروفة . وقال الهجري (1/235 ، 236 ) غضيان والعربة ولعلع من مدافع حسمى جذام . ويصف فلبي حسمى ( أرض الأنبياء ص 225 وحمد الجاسر 1/433-437 وشمال الحجاز لموزل ص 133 - 139 ) بأنها عبارة عن مكتبة ومتحف للصور ، يعرض فيها أدب العرب الأقدمين وفنهم، وهي غنية بالآثار إذا ما قورنت بتيماء وما جاورها .

ونعتقد أن اشتقاق الكلمة إنما كان نحتا من المركب الإضافي حسي ماء ، ثم اعتراه حذف بعض الأحرف .

وقال المسعودي في خبر أرم ( 2/15) إنه مسمى بإرم بن ثمود بن عامر بن سام بن نوح ، وجاء في المعجم الجغرافي للبلاد السعودية قول حمد الجاسر ( 1/76 ) : ويعلق الأستاذ موزل على قول ياقوت : فوق جبل أرم . - أورم حاليا - يمكن أن تنبت الكروم وأشجار الصنوبر قائلاً : ولكني لم أر شجرة واحدة من الصنوبر إلى الجنوب من عمان .

     وتحصر بعض الأطالس موقع حسمى بشمال المملكة العربية السعودية ، ولكن الصحيح هو أن حسمى تمتد شمالا إلى بطن الغول ومعان ، وحسمى هي التي أرادها ابن بطوطة ( 1/129 ) بقوله : ثم ارتحلنا إلى معان .. ونزلنا من عقبة الصوان إلى الصحراء التي يقال إن داخلها مفقود وخارجها مولود " . وتمتد غربا إلى سلسلة الجبال الواقعة شرقي سيناء إلى حدود صحراء التيه ، وتمتد شرقا إلى بُسَيطة والشُّبَيْكَة وأرض الصوان إلى الجنوب الغربي من وادي السرحان ، وإلى الجوش والعلم اللذين مر بهما المتنبي بين بسيطة والجوف . أما جنوبًا فإلى تبوك متصلة بجبال الشفا وجبال الحجاز ، وهذا التحديد يوافق مذهب ابن السكيت السابق ذكره .

وقول الراجز : رمل أيلة الدهاسا ، يريد الناعم ، وهو جزء من حسمى ، وذلك ما جعلهم يقولون في خبرها " إنها تؤدي أثر النحلة " أي لنعومة رملها فإن أثر النحلة يظهر فيه ، وهذا ينطبق أيضا على رمل "نخل" في وسط هضبة التيه .

وقول الراجز : بلدا هرماسا ، أي واسعًا، وما ندري إن كان لقوله " هرماسا " علاقة ببئر ابن هرماس الواقع فيها على طريق الحاج الذي يصل السعودية بالأردن مارا بالحزم فبئر ابن هرماس فذات الحج فحالة عمار فالمدورة داخل الحدود الأردنية .

     وقد أتيح لنا أن نجتاز هذه المواقع وأن ننـزل فيها إذ كثيرًا ما كنا نتوجه بين السعودية والأردن برًّا ما بين عامي 1962 و 1971م وبعد ذلك عام 1984م . ويلاحظ المسافر فيها ، أنها كما ورد في وصفها ، أرض غليظة وماء قليل ، وفلوات خاوية لا يشذ فيها سوى جبل يرتفع هنا وقارة تنبو هناك ، أو كثيب منهال ، قال النابغة الذبياني (ياقوت):

فأصبح عاقلاً بجبال حسمى

      دقـاقُ التربِ محتـزم القتام

وجاء به ياقوت شاهدًا على جبال حسمى وأن القتام لا يكاد يفارقها .قال: وقد اختلف الناس في تفسير هذا البيت ولم يعلموا ما أراد . وبكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين يعرفها من رآها من حيث رآها لأنها لا مثيل لها في الدنيا .

     قلت : نظرًا لنعومة رملها ، ولجفافها وحرارتها فإن الغبار يخف فيها لأدنى ريح ، ولا يكاد القتام والهباء يفارقها ، ومن أشرف عليها رأى القتام يخيم عليها لاتساعها وانبساطها نسبيًّا ، وقول الذبياني قريبٌ من قول الشاعر :

إذا غوزن هاجرة بفيفٍ

      كأن سـرابها قطـع الدخـان

والسراب لا يكون كالدخان ، وإنما أراد ما خف من الهباء ولعاب الشمس والأبخرة التي تنتشر في الأفق ، ونعتقد أن النابغة نزل حسمى أيام لجوئه للغساسنة عقب وعيد المنذر .

     أما قوله : لم يعلموا ما أراد ، فلعله راجعٌ إلى ضبط البيت ، ونعتقد أن الصواب في ضبطه ضم الدقاق على أنه اسم أصبح وصاحب الحال المقدمة (عاقلاً) ومحتزم القتام حال أخرى ، أمّا خبرها فهو شبه الجملة (بجبال حسمى) ويكون المعنى : فأصبح دقاق الترب عاقلاً أي معقولاً لا يتحول من موضعه ( اسم فاعل بمعنى المفعول ) .

أما حرة نهيا ، بهل ، وهي مما ورد ذكره في شعر المتنبي ، لكن في غير رحلته من مصر إلى الكوفة ، فهي تقع إلى الشمال من حسمى ، وكان بينه وبين أمير بني فزارة (حسان بن حكمة) مودة وصداقة، وكان هذا بحسمى ، ولا شك أن تلك الصداقة تعود إلى وقت سابق ، أو ربما زار المتنبي تلك المنطقة من قبل حاجًا مع سيف الدولة أو بدر بن عمّار ، أو صيادًا، فنشأت بينهما هذه العلاقة ، وظلت من بعيد حتى قصده في طريقه من مصر إلى الكوفة ، فتجدد بذلك العهد لولا بوقة عبيده .

     ولكن أبا الطيب لم ينـزل عند صديقه هذا ، وإنما أراد أن يوهم القوم ، فنـزل عند جار لهم هو وردان بن ربيعة من طيـئ ، ثم من معن ثم من بني شبيب، فاستغوى عبيد المتنبي بامرأته طمعًا في سيف مذهب كان معه ، وفي غيره من متاع المتنبي ، ويبدو أن وردان كان قد اطلع على سر المتنبي وأن كافورًا كان يطلبه ، ولذلك طمع في متاعه ، وهو الذي قال فيه يذمه ( ديوانه ص 557)

إن تك طيـئ كانت لئاما

      فألأمـها ربيـعة أو بنــوه

وإن تك طيـئ كانت كرامًا

      فـوردان لغـيرهم أبــوه

مررنا منه في حسمى بعبد

      يمـج اللـؤم منخـره وفوه

أشذ بعرسه عني عبيدي

      فأتـلفهم ومـالي أتلفـوه

     وكانت حسمى آنذاك قد طابت مع ابتداء الربيع ، وأقام بها المتنبي شهرًا، غير أنه بدأ يتوجس من ملاحقة كافور ، ووجد من سوء معاملة القوم وانقلاب بعض عبيده عليه ما جعله ينفذ رسولاً إلى فليتة بن محمد من بني فزارة ثم من بني مازن ثم من ولد هرم بن قطبة بن سيّار ليدله على الطريق ، ويبدو أنه استجار بهم ليحموه مما بات يحيق به ، ويتضح ذلك من الأبيات التي وردت في رحلته على لسان أحد الأعراب : (عزام 139)

إذا ما كنت مغتربًا فجاور

      بني هرم بن قطبة أو دثارًا

إذا جاورت أدني مازني

      فقد ألزمت أقصاها الجوارا

وفاجأ المتنبي عبيده بالرحلة ، لأنه لم يعد يثق في كثير منهم ، ويبدو أنه علم أن خيل كافور تلاحقه ، وكان يوهمهم أنه سيعبر طريق البياض ، وبالفعل فقد سار فيها مسافة ثم عدل .

البَياض

     جاء في خبر أبي الطيب " فأخذ طريق البياض ، فلما صار برأس الصوان أنفذ فليتة بن محمد إلى عرب بين يديه وتوقف " .

     قلت : هناك في الجنوب الشرقي من الأردن منطقة تعرف بأرض الصوان ، وتمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ما بين باير وجبل الأثريات والحدود السعودية الممتدة بمحاذاة وادي السرحان من الشمال إلى الجنوب .

وهناك عقبة الصوان إلى الجنوب الغربي من معان ، ولعل المقصود بها النقب ، نقب أشتار حيث الموقع المعروف برأس النقب ، وهي تفضي إلى درب الحج الشامي ، وتليها جنوبًا حسمى ، وبسيطة إلى الجنوب الشرقي ، وكذلك الشبيكة إلى الجنوب من أرض الصوان ، وهي التي قال فيها ابن بطوطة (1/129):" ثم ارتحلنا إلى معان ، وهو آخر بلاد الشام ، ونزلنا من عقبة الصوان إلى الصحراء التي يقال : داخلها مفقود وخارجها مولود " . وقد سلكها المتنبي من الجنوب إلى الشمال .

     وجاء في بلدان ياقوت : أودات كلب : هي أودية تنسل من الملحاء ، وهي رابية مستطيلة ما شرَّق منها الأودات، وما غرَّب فهو البياض ". قال الشيخ حمد الجاسر ( شمال المملكة 1/236): وهذا البياض الذي يقع غرب الملحاء صحراء واسعة تنعدم فيها الجبال، ولكنها تحاط بالآكام من كل جهاتها ، وتمتد من الجنوب من المرتفعات الواقعة شمال واحة الجوف حتى ملتقى الحدود الشمالية (السعودية) بحدود الأردن، ويحف بها من الشرق الأرض المرتفعة التي كانت قديمًا تعرف بالملحاء، ومن الغرب حرة الرحا التي تمتد منها آكام ومرتفعات حتى واحة الجوف . ويحتمل أن تكون هذه المنطقة هي ما يعرف ببياض قرقرة الذي حدد الهمداني (ص272) موقعه بأنه يقع بين تيماء وحوران.

     وقال الشيخ حمد الجاسر (1/237): وأرى هذا الموضع جزءا من البياض الواقع غرب الملحاء (السابق ذكرها) . وهناك وادٍ في حسمى ذكره الشيخ حمد (1/37) باسم الأبيض ، وقال إنه يقع في أعلى وادي عفال .

     قلت : هناك منطقة إلى الشمال الشرقي من غرندل (تربان) قبل معان تعرف برأس مقطع الرحايا ، فهل يقع على طرف حرة الرحا الغربي ؟ وهل سميت به لأنها تقطع منها الأرحاء ؟ أو لأنها تشبه في استدارتها الرحا؟

     ولم يمعن المتنبي قدمًا في طريق البياض التي يبدو أنها تقود إلى شمال وادي السرحان والأزرق ، لأنه خشي أن تكون عيون كافور قد رصدت عليه الطريق ، فقد جاء في خبره وقد صار برأس الصوان (عزام 140 ): أن بعض عبيده قد انقلبوا عليه ، وأمر بضرب أحدهم ، فأدماه ، وكان أشد من معه وأفرسهم ، فولى متمردًا ، ولما أصبح أتبعه المتنبي عليا الخفاجي وعلوان المازني، ووافق ذلك اليوم عودة فليته ، وأخبرهم أنه رأى سرب الخيل عابرة من علم قريب منهم (خيل رجال كافور) وأشار إليه، ولذلك فقد عقد العزم على تغيير وجهته ، وقرر التوجه شرقًا على خط عرض 30 5 شمالاً تقريبًا ، ومال يمينًا طالبًا من فليتة بن محمد أن يخرق بهم إلى دومة الجندل (الجوف) ، وأسرع إلى الكِفاف.

الكِفاف وكَبْد الوِهاد

قال ياقوت: موضع قرب وادي القرى، وذكر قول المتنبي (ديوانه 553) :

روامي الكفاف وكبد الوهاد

      وجار البويرة وادي الغضا

قلت: يريد أن إبله وخيله عبرت تلك الأماكن في طريقها إلى الجوف ، ولكن قول ياقوت إن الكفاف قرب وادي القرى مستبعد ، والذي نراه أنه على مقربة من "كبد" الذي يقع إلى الجنوب الشرقي من الشبيكة قريبا من بسيطة التي تمتد عبر الحدود السعودية الأردنية . وما يزال هذا الموقع يعرف باسمه (الكبد) ولعله هو المقصود بكبد الوهاد ، سقط المضاف إليه وأقيم المضاف مقام المركب، وهذا باب تتسع له العربية ، والوهاد جمع وهدة، وهي الغائط الغائر قليلا من الأرض ، والطبيعة الجغرافية لتلك المنطقة تؤيد ذلك .

     وقد ذكر ياقوت كبد الوهاد وقال : موضع في سماوة كلب . ولا نراه ، لبعد ما بين السماوة وهذه المرحلة من مراحل طريق المتنبي . ونعتقد أن أبا الطيب تابع مسيره شرقًا في بسيطة ، إلى البُوَيْرَة .

البُوَيْرَة

     وهي تصغير البئر ، ولعل طريقه كان في شمال بسيطة ، قريبًا من أرض الصوان ومنطقة وادي العناب على الحدود السعودية الأردنية، وجدير بالذكر أن آبارًا كثيرة تنتشر في المنطقة وإلى الشمال منها . قال ياقوت : والبويرة موقع قرب وادي القرى ، بينه وبين البسيطة. وذكر بيت المتنبي السابق .

قلت:بل هو في بسيطة نفسها،بل في شمالها وفي واد منها يعرف باسم وادي الغضا .

وادي الغضا

وهو جار البويرة في قول المتنبي، ولم يذكره ياقوت ، والغضا شجر الرمل كالأراك ، وقد أضيف الوادي إلى ما ينبت فيه من الشجر ، وهو كثير في تلك المنطقة وإلى الشمال والشرق منها ، جاء في الرحلة التنوخية (ص46)، " ويطبخ الأمير قهوته على نار الغضا التي تضارع بحرارتها ومدة دوامها فحم السنديان في ديارنا وتفوقه بعدم دخانها ورائحتها " يريد أمير دومة الجندل ( الجوف ) .

الجَوش والعَلَم

    وهما جبلان في بسيطة مرّ بهما المتنبي، ولم يذكرهما في قصيدته المقصورة التي نظمها بعد وصوله إلى الكوفة ، والتي بسط فيها خبر رحلته من مصر ، والمواضع التي مر بها ، ولكنه ذكرهما في ميميته التي قالها بالكوفة يرثي أبا شجاع فاتكًا : (ديوانه ص 537)

طردت من مصر أيديها بأرجلها

      حتى مرقن بنا من جوش والعلم

تبري لهن نعام الدو مسرجة

      تعارض الجدل المرخاة باللجم

قال ياقوت في الجوش : جبل في بلاد بلقين بن جسر بين أذرعات ( درعة ) والبادية ، وقال : هما من حسمى على أربع ، أي أربع ليال . وعن السكري أن جوشًا شمال الجناب .

قلت : تحديد ياقوت للموقع غير دقيق، أما موقعهما من حسمى فصحيح ، وهما في اتجاه الشرق منها . واجتهد الشيخ حمد الجاسر في تحديد موقعهما مرجحًا أن الجوش هو ما يعرف اليوم باسم الطبيق قرب الحدود الأردنية ، ولا نراه ، لبعدها عن سمته إلى الجوف . أما قول السكري فيحتمل أن يكون ، إذ أن ثمة موضعًا إلى الغرب من الجوف على مسيرة يوم يعرف بوادي الجناب إلى الغرب من الجراوي الذي مرَّ به المتنبي .

     وجاء في ياقوت أيضًا (العلم): علم السعد ودجوج جبلان من دومة على يوم، وهما جبلان منيفان ، كل واحدٍ منهما يتصل بالآخر ودجوج : رمل مسيرة يومين يتصل إلى دون تيماء بيوم يخرج منه إلى الصحراء وهو الذي عناه المتنبي بقوله (السابق) وهما جبلان بينهما وبين حسمى أربع ليال .

     قلت : وفي بسيطة موضع يعرف بقبعة العلم ، ولعله العلم المذكور ، وسيأتي ذكره فيما يلي ، وذكر المتنبي النعام في البيت الثاني يؤكد أن الجبلين في بسيطة لأنه ذكرها موطنا للنعام والمها على نحو ما سيأتي .

بُسَيْطَة

     قال البديعي: إنها قرب الكوفة ، قلت : لا وجه لذلك ، ونراه التبس عليه الأمر ، فخلط بينها وبين البسيطة التي تقع بين مكة المكرمة والكوفة . وقال ابن بري (اللسان : بسط ) : بسيطة مصغرًا اسم موضع ربما سلكه الحجاج إلى بيت الله الحرام ، ولا يدخله الألف واللام .

وفي التاج ( بسط ): بسيطة ، بالضم ، فلاة بين أرض لكلب وبلقين ، وهي بقفا عفراء وأعفر . وقال ياقوت : هو بقفا عفر أو أعفر. وقيل : بسيطة على طريق طيـئ إلى الشام. وقال : أرض في البادية بين الشام والعراق ، حدها من جهة الشام ماء يقال له "أمرّ"، ومن جهة القبلة موضع يقال له قبعة العلم ، وهي أرض مستوية فيها حصى منقوش أحسن ما يكون ، وليس بها ماء ولا مرعى ، أبعد أرض الله من السكان ، سلكها أبو الطيب المتنبي لمّا هرب من مصر إلى العراق ، فلمّا توسطها قال بعض عبيده، وقد رأى ورًا وحشيًّا :هذه منارة الجامع، وقال آخر منهم وقد رأى نعامة: وهذه نخلة ، فضحكوا، فقال المتنبي : (ديوانه 558 ، 559 )

بسيطة مهلاً سقيت القطارا

      تركـت عـيون عبيدي حيارا

فظنوا النعام عليك النخيل

      وظنوا الصـوار عليك المنـارا

فأمسك صحبي بأكوارهم

      وقد قصد الضحك فيهم وجارا

وقوله : أبعد أرض الله من السكان يجعلها موطنًا للنعام والبقر الوحشي ، وقوله : ليس بها ماء ولا مرعى يدعم كون البويرة السابق ذكرها فيها ، للتصغير ، وإنما صغرت بسيطة للتعظيم والتهويل كالخويخية والدويهية ، لانبساطها وهو حقيقة ، ونرى أنها المقصودة بقول الراجز (اللسان بسط) :

إنك يا بسيطة التي التي

      أنذرنيك في الطريق إخوتي

وقد رواه ابن سيده (المحكم ، بسط ) :

ما أنت يا بسيط التي

      أنذرنيك في المقيل صحبتي

لاقترانها في الروايتين بالإنذار ، لأنها مفازة تيهاء مجهل . وهي لاستوائها تشبه الرداء على نحو ما قال المتنبي في إبله وخيله ( ديوانه 553 ) :

وجابت بسيطة جوب الردا

      ء بـين النـعام وبـين المـها

وجاء في خبر أمرّ ( ياقوت - أمر ) ، هو أفعل من المرارة ، موضع في برية الشام من جهة الحجاز على طرف بسيطة من جهة الشمال ، وعنده قبر الأمير أبي البقر الطائي . وأنشد ابن الأعرابي :

يقول : أرى أهل المدينة أتهموا

      بها ، ثم أكروها الرجال فأشأموا

فصبحن من أعلى أمرَّ ركية

      جلينا ، وصلع القوم لم يتعمموا

قلت: وأمرّ في روضة الشبيكة ، شمال بسيطة ، قال ياقوت في حدها : من نواحي الجوف ، بين قراقر وأمرّ .

ماء الجُرَاويّ

     وخرج المتنبي من بسيطة وتوجه شرقا إلى ماء الجراوي الواقع إلى الغرب من الجوف ( دومة الجندل ) ، وقد ذكره ياقوت باسم الجروي ، بينما جاء شاهده بلفظ الجراوي ، وهو قول أبي الطيب (ديوانه 553) :

إلى عقدة الجوف حتى شفت

      بماء الجراوي بعض الصدى

وقال : هي مياه في بلاد بلقين بن جسر، وهي قلب على طريق طيـئ إلى الشام (حمد الجاسر 1/315) .

وهو قبل عقدة الجوف (دومة) ، ولكنه قدمها في الذكر وحسب ، وقد ورد ماء الجراوي وتزود منه . قال التنوفي فيه ص (33): " وما زلنا نضرب في البيد غورًا ونجدا ، حتى جزنا بموضع يقال له النبكوفي ثاني يوم أوردنا رواحلنا قليب الجراوي بعد أن لقينا من لفحات السموم في الفلاة ما هو لعمري أحرّ من دمع المقل ، فأنخنا لنروى ، فوجدنا الماء لقلة المتح ، كما يعلله البدو ، متغير اللون والطعم والرائحة ، وفيه مع ذلك خلق من الدود كثير ، فهرول صاحبي لينقع غلته من علبة الماء ، فصار يتجرعه ولا يكاد يسيغهوالجراوي (ص34) هذا على بعد نحو مئة كيلو متر من دومة الجندلومن الغريب أن ماء هذا القليب الآسن الوخيم كان مهجيًّا مقليًّا من القديم ، وذكر قول ياقوت وقول بعض الأعراب :

ألا لا أرى ماء الجراويّ شافيا

      صداي ولو روّى غليل الركائب

فيا لهف نفسي كلما التحت لوحة

      على شربة من ماء أحوض ناضب

قلت : عجيب أن التنوخي لم يذكر خبر أبي الطيب في هذا الموضع ، لاسيما أن بينهما من التشابه ما بينهما ، فكلاهما اتخذ من هذه البادية ملاذا من خصمه .

عُقْدَةُ الجَوْف

     أي قصبة الجوف ، والجوف نفسه ، وهي دومة الجندل ، وقد ذكرها ياقوت مع مواقع أخرى تحمل اسم الجوف، وحدها بأنها موضع في سماوة كلب بين الشام والعراق . وذكر قول أبي الطيب السابق . ويذكر اسم الجوف على المنطقة التي تتبعها وهي جملة القريات : دُومة وسكاكة والقارة وطبرجل . وقد أخطأ محرر دائرة المعارف البستانية في عده الجوف مختلفا عن دومة الجندل . جاء في مراصد الاطلاع (دومة) :

دومة الجندل بالضم ، ويفتح ، وأنكر ابن دريد ( جمهرة اللغة 2/301 وتابعه صاحب الروض المعطار ص 390 ) الفتح ، وعده من أغلاط المحدثين . وجاء في حديث الواقدي دوماء الجندل ، قيل : هي من أعمال المدينة حصن على سبع مراحل من دمشق بينها وبين المدينة . قيل: هي في غائط من الأرض خمسة فراسخ ، ومن قبل مغربه عين تـثج ، فتسقي ما به من النخل والزروع ، وحصنها مارد ، وسميت دومة الجندل لأنها مبنية به ( بالجندل : الحجر ) وهي قرب جبلي طيـئ ، ودومة من القريات من وادي القرى ، والقريات دومة وسكاكة وذو القارة ، وعلى دومة سور يتحصن به ، وفي داخل السور حصن منيع يقال له مارد ، وهو حصن أكيدر ابن عبد الملك ، صالحه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأَمَّنه ، وكان نصرانيا (انظر ياقوت دومة ، وحمد الجاسر 2/537 - 539 ) ، وذكر التنوخي (ص 41 ) أنها كانت من مغارس الزيتون قديمًا ، وهذا يؤيد ما سبق أن ذكرناه في " نخل " مركز تيه سيناء ، من أنها سميت به لعلاقة بالنخيل وإن لم تعرف به في الآونة المتأخرة ، وقد أورد التنوخي وصفا مفصلا لهذه البلدة وناحيتها وذلك في رحلته التي جمعناها ونشرناها مع شيء من الحواشي والتحقيقات .

صُوَر

صور موضع خرج إليه المتنبي من الجوف، وهو استنادا لمقتضى الموقع من الجوف والكوفة ، يقع إلى الشمال الشرقي من الجوف ، بعد سكاكة . وهنا نذكّر بأن الكوفة تقع على خط عرض 32 درجة شمالا في حين أن الجوف تقع على خط عرض 30 درجة شمالا تقريبا . وهذا يعني أن ركبه سار في الاتجاه الشمالي الشرقي بزاوية مقدارها 45 درجة تقريبا .

ونعتقد أن صور جبل ، بدليل قول المتنبي (ديوانه ص 553 ) :

ولاح لها صور والصباح

      ولاح الشَّغور لها والضحى

لأن قوله "لاح" يعني "بدا" وهذان الفعلان أكثر ما يستخدمان مع المرتفعات. وقوله " والصباح " يعني مع الصباح ، أي آخر الليل ، وأول النهار. ونعتقد أنه خرج من الجوف مساء وأصبح في ذلك المكان . وجدير بالذكر أن المصورات الجغرافية تشير إلى موقع في ذلك المكان باسم " صوير " ولعله هو المقصود ، إذ أن البدو كثيرا ما يُصَغِّرون الأسماء المتداولة بكثرة .

    وذكر ياقوت "صورى" وقال عن الواحدي ، عن الجرمي : هو ماء قرب المدينة ، وذكر بيت المتنبي السابق بصورى ، ولا نراه ، وأورد في (صور) قول الأخطل يذكر عمير بن الجناب:

أمست إلى جانب الحشاك جيفته

      ورأسه دونه اليحموم والصُّوَر

بضم الصاد . قلت لعله الموضع المقصود في بيت المتنبي .

الشَّغُور

    وظاهر قول المتنبي أنه جبل يقع إلى الشمال الشرقي من صور ، على مسافة عشرين كيلو مترا تقريبا ، بدليل قوله في البيت السابق :

ولاح الشغور لها والضحى

أي بدا جبل الشغور مع الضحى قال ياقوت : هو موضع في بادية كلب ، معروف، بالسماوة ، قرب العراق . تقول العرب : إذا وردت شغورا فقد أعرقت .

وهذا الوصف ينطبق على ذلك المنـزل من المنازل التي ذكرها المتنبي في قصيدته التي ترجم بهارحلته من مصر للكوفة ، نظرًا لقربه من الحدود العراقية السعودية .

الجُمَيْعِيّ

قال المتنبي ( 553 ) :

ومسّى الجميعيّ دئداؤها

      وغـادى الأضـارع ثم الـدنا

وهذا يعنى أن الجميعى إلى الشمال الشرقي من الشغور ، على مسافة تقارب أربعين كيلو مترا ، ويبدو أن المتنبي نزل فيه ، ثم سرى من آخر الليل . وتقديرنا للمسافة استنادا إلى قوله : ولاح الشغور لها والضحى ، وقوله : ومسّى الجميعيأن بينهما مسيرة نحو من ثماني ساعات.

وذكر ياقوت هذا الموضع ، وضبطه بضم أوله ، وبألف في آخره " الجُميعَى " والصواب ما أثبتنا ، واكتفى بقوله : موضع . وفي البيت السابق ذكر لموقع آخر هو :

الأَضارِع

وظاهر قول المتنبي يشير إلى أنه نزل بعض ليلته على الجميعي ، وسرى من آخر الليل فأتى الأضارع غدوة .

وجدير بالذكر أن ياقوت الحموي خص الأضرع بالذكر ، ولكنه ذكر الأضارع عرضا في حديثه عن الدنا التالي ، إذ قال: من منازل الحاج . قلت: يريد حاج العراق .

الدَّنا

     وهو ماء يقع إلى الشمال الشرقي من الأضارع السابق ، غير بعيد منه ، قال ياقوت:موضع بالبادية،وقيل: في ديار بني تميم بين البصرة واليمامة. قال النابغة:

أمن ظلامة الدمن الخوالي

      بمـرفض الحـبيّ إلى وعـال

فأمواه الدنا فعويرضات

      دوارس بعـد إحيـاء جلال

وقال : وذكر المتنبي بما يدل على أنه قرب الكوفة .

البِرِّيت

جاء في خبر رحلته أنه " اجتاز ببني جعفر ابن كلاب وهم بالبريت والأضارع، فبات فيهم " (عزام 142).

قلت : لعل الأماكن السابقة : الجميعي ، والأضارع ، والبريت والدنا ، متقاربة ، وكانت من منازل بني جعفر . وقد سبق أن ذكرنا أنه بات في الجميعي . ويقع البريت إلى الشمال الشرقي من خط الحدود السعودية العراقية، داخل العراق، ويرتفع نحوا من 349 مترا عن سطح البحر، لدى صدر وادي عرعر الذي يتجه إلى الجنوب الغربي .

قال ياقوت : البريت مكان بالبادية كثير الرمل . وقال شمر : يقال الخريت والبريت أرضان بناحية البصرة . وقال نصر : البريت من مياه كلب بالشام .

قلت : هذه الأوصاف توافق موقع البريت على المصورات الجغرافيةويبدو أنه انتقل بعدها فمر باللصاف ثم سلك شعيب أبو خمسات المفضي إلى الكوفة .

أَعْكُش

قال ياقوت: أعكش موضع قرب الكوفة. وذكر بيت المتنبي ( 553 ) :

فيا لك ليلا على أعكش

      أحم البلاد خفي الصوى

قلت : لاشك أن موقعه بين البريت والكوفة ، وأن اللصاف وشعيب أبو خمسات تقع فيه ، وكذلك الرهيمة التي سيأتي ذكرها .

الرُّهَيمَة

     قال ياقوت : ضيعة قرب الكوفة، وقال السكوني : هي عين بعد خفية إذا أردت الشام من الكوفة ، بينها وبين خفية ثلاثة أميال ، وبعدها القُطيّفة . وذكرها المتنبي ، وأورد البيت السابق والذي يليه :

وردنا الرهيمة في جوزه

      وباقيـه أكثـر ممـا مضـى

فزعم قوم أن المتنبي أخطأ في قوله : جوزه ، ثم قوله " وباقيه أكثر مما مضى " لأن الجوز وسط الشيء ، ولتصحيحه تأويل،وهو أن يكون أعكش اسم صحراء والرهيمة عين في وسطه،فتكون الهاء في جوزه راجعه إلى أعكش ، فيصح المعنى .

قلت : وهذا أعلى ، ونعتقد أن أعكش هو شعيب أبو خمسات الواقع إلى الجنوب الغربي من الكوفة ، وما نرى عكشته إلا لتشعبه وتعرجه ، فكأنه يرسم بذلك خمسة وراء خمسة 555 . ولذلك استوجب من المتنبي التعجب بقوله : يا لك ليلا على أعكش .

ولكن أبا الطيب ظفر آخر الأمر بما أراد، نجا من الهلكة في البيد المتناصية ، وتحرر من قيد كافور ، وبلغ الكوفة ، حيث بدأ رحلة جديدة .. ولكنها لم تطل .

ملحق

بما لم يرد من الأشعار التي ذكر فيها المواقع التي اجتازها في رحلته

قال وهو بالكوفة يرثي فاتكا ، أبا شجاع ، وكان قد توفي بمصر سنة 350 وذكر في بعض الأبيات مسيره من مصر: (ديوانه 5360) .

حتام نسارى النجم في الظلم

      وما سـراه على خف ولاقدم

يريد خروجه من مصر،إذ كان يسري ليلا،كالنجم، لكنه تعب،والنجم لا يتعب.

ولا يحس بأجفان يحس بها

      فقد الرقاد غريب بات لم ينم

تسوّد الشمس منا بيض أوجهنا

      ولا تسوّد بيض العذر واللمم

………………………………

      …………………………………

ونترك الماء لا ينفك من سفر

      ما سار في الغيم منه سار في الأدم

وفي هذا البيت إشارة واضحة إلى أنه خرج من مصر شتاء .

لا أبغض العيس لكني وقيت بها

     قلبي من الحزن أو جسمي من السقم

طردت من مصر أيديها بأرجلها

      حتى مرقن بنا من جوش والعلم

تبري لهن نعام الدو مسرجة

      تعارض الجُدلَ المُرخاة باللُّجم

في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا

      بما لقين رضى الأيسار بالزَّلَم

……………………………

      ………………………………

تخدي الركاب بنا بيضا مشافرها

      خُضرا فراسنُها في الرُّغل واليَنَم

معكومة بسياط القوم نضربها

     عن منبت العشب نبغي منبت الكرم

وفي هذين البيتين ما يؤكد سرعته في السير، والشد على الإبل ، وأن الوقت كان شتاء ، والأرض قد أعشبت ، والإبل تطأ العشب ، ولا تناهله أفواها لشدة العدو ، وقال يوما وكان خرج من  مجلس كافور : (546 )

ما من يرى أنك في وعده

      كمن يرى أنك في حبسه

لا ينجز الميعاد في يومه

      ولا يعي ما قال في أمسه

يريد أنه مرهون بمواعيد كافور ، ولكن كافورا يعامله معاملة المحبوس عنده ، لأنه لا يفيه ما وعده ، ولا يطلق سبيله فيرتحل، وقال ليلة خروجه من مصر، ليلة عيد الأضحى 9/10 ذي الحجة سنة 350هـ:

عيد بأية حال عدت يا عيد

      بما مضى أم لأمر فيك تجديد

أما الأحبة فالبيداء دونهم

      فليت دونك بيدا دونها بيد

…………………………

      ……………………………… 
 
 

إني نزلت بكذَّابين ضيفهم

      عن القرى وعن الترحال محدود

…………………………

      ………………………………

ويلمها خطة ويلمّ قابلها

      لمثلها خُلق المهْرِية القُود

يريد أنه عقد العزم على الفرار تلك الليلة. وقال عند وروده إلى الكوفة يصف منازل طريقه ويهجو كافورا. في شهر ربيع الأول سنة 351هـ . (ديوانه ص 551 - 555 )

ألا كل ماشــية الخـيزلى

      فـدى كل ماشـية الهـيذبي

وكـل نجـاة بجـاويــة

      خـنوف وما بي حسن المشي

ولكنـهن حبـال الحيـاة

      وكـيد العداة وميـط الأذى

ضربت بها التيه ضرب القما

      ر إمـا لهـذا وإمـا لــذا

فمـرت بنـخل وفي ……

      ………………………………

إلى آخر الأبيات التي سبق ذكرها في المواقع.

      يحيى جبر

عضو المجمع الفلسطيني 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

المصادر والمراجع

1.     البديعي ، يوسف .

      الصبح المنبي عن حيثية المتنبي . تحقيق مصطفى السقا وزميليه .

      طبعة دار المعارف ، القاهرة 1963م .

2.     البغدادي ، عبد القادر  

      خزانة الأدب .

3.     البكري ، أبو عبيد

معجم ما استعجم.مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر،القاهرة سنة 1947م.

4.     ابن بطوطة ، رحلته ، تحقيق علي المنتصر الكتاني ، مؤسسة الرسالة . بيروت 1985م ( جزآن ) .

5.     الجاسر ، حمد ، معجم البلاد السعودية . منشورات دار اليمامة بالرياض ، مطبعة نهضة مصر . القاهرة .

6.     جبر ، يحيى عبد الرؤوف :

  • الرحلة التنوخية ، رحلة عز الدين التنوخي من الزرقاء إلى القريات . ط دار الشعب عمان 1985م .
  • معجم البلدان الأردنية والفلسطينية ، منشورات دائرة التربية والتعليم العالي بمنظمة التحرير الفلسطينية ، عمان 1991م .

7.     حافظ، أبو الحجاج. سيناء ،نشرة الإنجلو المصرية.منشورات وزارة الثقافة د.ت.

8.     حسان بن ثابت ، ديوانه ، طبعة القاهرة . د.ت.

9.     حمدان ، جمال . سيناء . سلسلة كتاب الهلال ، القاهرة 1993م .

10.الحموي، ياقوت . معجم البلدان .. طبعات مختلفة ( الأوربية ودار صادر).

11.زكي،عبد الرحمن. سيناء أرض المعارك . دار النيل للطباعة . القاهرة 1957م.

12.عزام ، عبد الوهاب : ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام . نشرة دار المعارف. الطبعة الثالثة . القاهرة 1968م .

13.مباشر ، عبده وزميله ، سيناء الموقع والتاريخ. دار المعارف، القاهرة 1978م.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

14- المسعودي ، علي بن الحسين: مروج الذهب ومعادن الجوهر.ط.دار الأندلس. بيروت 1965م .

15- المقريزي ، تقي الدين أبو العباس : كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، المعروف بالخطط المقريزية . منشورات مكتبة الثقافة الدينية . القاهرة .د.ت.

16- الهروي ، علي ، الإشارات على معرفة الزيارات . دمشق 1953م.

17- اليازجي ، الشيخ ناصيف . العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب . بيروت 1887م