الصوت لفظا ومعنى

yahyaj's picture
Year: 
2009

 

الصوت لفظاً ومعنى

                                                                            

لكل صوت دلالة، ولكن دلالات الأصوات المفردة نادراً ما تظهر في التعامل اللغوي، ذلك أن المعاني المتداولة لا تكون إلا مركبة من دلالات مختلفة، أدناها ثلاث في الغالب، بحيث يعكس كل منها واحدا من أبعاد المعنى، وبعبارة أخرى، فإننا نرى المعنى أشبه بالتفاحة من حيث هي كتلة ولون وشكل، لأن الغالب في الشيء أن لا يعرف ما هو بالتحديد دون أن نعرف ثلاثاً من مواصفاته...

 

ويمكن أن نقول، من طريق آخر، إن دلالة الصوت الواحد على المعنى تمثل الجزيء الذي لا يقبل التجزئة من هذا العنصر أو ذاك. ولنأخذ، لتوضيح ما تقدم، جسما من الأجسام أو شكلاً من الأشكال... فكم هي الأمور التي لا بد لنا من معرفتها لمعرفة ذلك الجسم أو الشكل...؟ إنها في الغالب ثلاثة فما فوق،  ونادراً ما تكون اثنين أو واحداً...

 

          نبدأ بالواحد... فإن الجسم الذي نحتاج إلى مواصفة واحدة لمعرفته، هو الجسم الذي يكون بين يدي الناظر،  أو _ بعبارة أدق _ هو الجسم الذي يكون موضوعاً للحس المباشر. ترى الجمل فتدرك أنه الجمل! ونظير ذلك من الدلالات ما وقعت عليها الحواس، كأن تسمع رعداً أو ترى سيارة مقبلة نحوك فتجفل. وهنا يُكتفى بكلمة واحدة في الغالب. أما الاثنان، فمن الأمثلة التي تحتاج إلى معرفين أو تحديد صفتين لمعرفتها: المطر،  والبر،  والبحر ونحو ذلك حيث يمكن أن نعبر عن المطر بقولنا: ماء السماء، وعن البر: بنقيض البحر،  وعن البحر بنقيض البر وهكذا. ويلاحظ هنا أن هذا النوع من الأشياء فريد في حاله: وليس هناك ما يشترك معه في صفته،  ولا يكون أصلاً إلا في ما كان منه اثنان: كالليل والنهار، والسماء والأرض، أو اشتهر حتى صار كذلك.

 

          أما الثلاثة، فمن أمثلة الأشياء التي نحتاج لمعرفتها بشكل محدد إلى ثلاثة أوصاف، ما كان كثيراً معروفاً، كالطائر ( جسم حي يطير)، والسفينة ( جسم يركب في البحر)...  ولكن إذا أردنا أن نعرف أي نوع من الطيور هذا،  وأي سفينة من السفن تلك،  فإن علينا أن نزيد في عدد المفردات المعرّفة، ومن هنا كان التعبير عن الأشياء المعنوية بحاجة إلى ألفاظ أكثر مما يحتاج إليه التعبير عن الأشياء المادية، وكلما دق المعنى كان أحوج إلى مزيد من الألفاظ.

 

          ولكن أطراف العملية اللغوية لا يلجؤون إلى التعبير عن الأشياء بما يعرّفها من الألفاظ، أعني أنهم لا يقولون مثلاً: يعيش السمك في نقيض البر، ولا: يعتبر " الجسم الحي ذو السنام " صديقاً للإنسان! وإنما يعبرون عنهما باسميهما: البحر والجمل. وهذا المعبر به هو اللفظ المفرد،  ومعناه الذي يقع عليه معنى مفرد. وهذا هو الأصل في اللغة أن يكون لكل لفظ معنى،  ولكل معنى لفظه المعبر به عنه...

          وتعامل الناس يتم في معظمه بالمعاني المركبة،  التي يعبرون عنها بألفاظ مركبة ( في جمل )،  وإن بدا لك غير ذلك من استدلال بالألفاظ الموجزة أو باللفظ الواحد أحياناً على المعاني الكثيرة فذلك من باب الاختزال والتواضع،  وتحميل القليل معنى الكثير،  تماماً كالاستدلال بالبعرة على البعير.

 

          وفي المقابل،  في مجال الأصول اللغوية،  فإن دلالة الصوت ( الحرف ) الواحد لا تكفي بمفردها لتعريف دلالته،  ولكنها ضرورية ضرورة قولنا "حي" من حد الطائر " جسم حي يطير"،  وقولنا "نقيض" من حد البر " نقيض البحر". وبعبارة أخرى فإن المعنى المفرد،  كالمعنى المركب،  كلاهما يتكونان من دقائق وآحاد أصغر،  وكذلك فإن اللفظ المفرد ( الكلمة ) كاللفظ المركب ( الجملة والكلام) كلاهما مركب من أجزاء يقوم كل منها بتغطية جزء من المعنى مفرداً كان أم مركباً: الكلمة من أحرفها ( أصواتها ) والجملة من مفرداتها وكلماتها.

 

          وقريب من ذلك الأعداد: المفردة، من 0 9 والمركبة من عشرة فما فوق،  ذلك أن دلالة الرقم تختلف باختلاف موضعه،  وهي هنا قيمته،  وأنها قابلة للتركيب كالحروف.  وتشبه الأرقام أصوات اللغة المفردة حيث تكون دلالتها مبهمة،  ولكن،  فكما أن الأصل اللغوي يصبح ذا دلالة واضحة بالتئام شمل أحرفه؛ فإن الأرقام تغدو ذات دلالة واضحة بالتئام شملها مع المعدود،  وقل مثل ذلك في الكلمة المفردة كالمشي مثلاً حيث تعطي معنى ولكنه يظل مبتوراً ما لم تتصل بكلمة أخرى فتكونان معاً معنى مفيداً... لجملة مفيدة.

 

          وقريب من ذلك الأجسام... حيث لا كينونة لجسم ما لم يكن ذا ثلاثة أبعاد... أما الخط المستقيم __ وهو يمثل بعداً واحداً __ فهو ضرب من الوهم لا وجود له،  وكذلك المثلث،  لأنه يمثل بعدين هما الطول والارتفاع،  وما أشبه دلالة الخط بدلالة الرقم"1" ودلالة المثلث بدلالة الرقم "111" دون أن يذكر معهما معدود ما.  أو قل بدلالة الحرف الأول،  والحرف الأول فالثاني فالثالث من الأصل اللغوي.

 

          والذي نراه أن الناس قديماً كانت تكتفي بالمفرد وأجزائه،  سواء في ذلك الأصوات والمعاني... لأن حاجتها إلى المركب تولدت مع تطور الحياة وتقدم نمطها،  فكان الإنسان يشعر بحاجته إلى صيغ صوتية جديدة للتعبير عن المعاني المتجددة باستمرار،  بل إن هذا هو ما يحدث في حقيقة الأمر،  ويمكن التأكد من ذلك بدراسة شمولية رجعية لما كان من عدد الألفاظ والمعاني قبل قرن من الزمان... وقد نكتفي بالحقيقة المتمثلة في أن اللغة تتسع وتتطور،  لا تضيق وتتراجع.

 

دلالة الأصل على المعنى:

 

لكل أصل لغوي دلالة تقع على معنى واحد في الأصل.  ولهذا المعنى وجوه وصور لا حصر لها،  فهو مبهم إلى حد بعيد،  ولنأخذ مثلا معنى الشدة... فما هي الشدة المعنية وما صفتها؟  إنها تتراوح ما بين اللين والصلابة... وهل هناك من يستطيع أن يحصي كم بين اللين والصلابة من الصفات التي تأخذ من كليهما بنسب مختلفة؟  ولتوضيح ذلك أكثر نأخذ معنى السواد...  فأي درجة منه نقصد... إنه درجات تتراوح ما بين 50% إلى 100%،  بل إن كل واحد بين هذين الرقمين قابل للتجزئة إلى درجات كثيرة...،  وهذا يجعلنا نميل إلى القول إن المعاني كروية،  والكرة لا يرى إلا نصفها في أحسن الأحوال،  غير أن نصفها الآخر يمكن إدراك كثير من خصائصه بالعقل.  وإن المعاني لتتشابه وتتماس،  في هذا الجانب أو ذلك وهكذا.

 

            ونعتقد أن الحد الفاصل بين معنيين هو منتصف المسافة بين ممتدهما،  ذلك أن كل معنى يرتبط بنقيض،  وهذه الظاهرة حية في كل الكائنات... لكل ذكر أنثى ولكل نقيض،  ولكل سالب موجب وهكذا،  فنقيض الشدة هو اللين... والحد الفاصل بينهما هو المنتصف الذي يجمع بينهما‍ فإن زاد فيه عنصر الشدة فتلك شدة،  وإن زاد فيه عنصر اللين فذلك لين... ويمتد اللين في الاتجاه الآخر درجة أخرى يلتقي في أولها بمعنى آخر هو السيولة،  فإذا كان آخرها بدأ معنى جديد في التولد هو السيولة... وهكذا.

 

       كمال حد السيولة                      كمال حد اللين                    كمال حد الشدة

 

حيز التدخل بين                   حيز التدخل بين                                 حيز التدخل بين                    حيز التدخل بين

الغازية   و  السيولة                السيولة    و     اللين                      اللين       و      الشده          الشده    و   الصلادة

50% ليونة

100% سيولة

50% سيولة

50% غازية

50% صلادة

50% شدة

100% شدة

.%ليونة ليونة

50% شدة

100% ليونة

 0% شدة

100% ليونة

.% ليونة

100% سيولة

 

         

          إن حد الخمسين في المائة هو الفاصل بين حيزي المتناقضين،  وعن يمينه يكون حد كمال السالب ( اللين ) ( والسيولة) وعن شماله يكون حد كمال الموجب(الشدة) و ( اللين قياسا بالسيولة)،  وهكذا إلى أن نصل إلى طريق مسدود بحكم طبائع الأشياء أو بحكم محدودية عقل الإنسان في قدرته على التصور والإحاطة بالطبائع التي قد تكون قائمة.

 

          وتكون دلالة الأصل اللغوي على المعنى كدلالة قولنا: " جسم حي ذو سنام" على جمل بعينه، ذلك أن قولنا المذكور ينصرف لدلالة مبهمة تفيد معنى ولكنه نكره.  أي أنه لا بد من زيادة في قولنا السابق ليصبح دالاً على جمل بعينه كأن نقول: جسم حي ذو سنام لإبراهيم.

 

          والغالب في الأصول اللغوية المستخدمة أن تكون من ثلاثة أحرف،  ويناظر الزيادة التي أضفناها على قولنا السابق ( لإبراهيم ) – التي جعلته أوضح دلالة – كل من أحرف الزيادة التي تلحق بالأسماء المشتقة والأفعال،  والمبنى الذي تصاغ فيه.. فالأصل ( غ ر ب) ينصرف لدلالة تقع على معنى الحجب والاحتجاب... ولكن الزيادات التي طرأت عليه في كل من: غريب... ومغرب،  وغروب،  واغتراب،  وغيرها هي التي رشحت كل كلمة لمعناها الأصلي ؟؟ ومع ذلك،  فإن الأصل ( غ ر ب) يظل هو القاسم المشترك الصوتي للمفردات آنفة الذكر،  كما تظل الدلالة التي تقع على معنى ( الحجب والاحتجاب ) هي القاسم المشترك المعنوي للمعاني التي تنصرف لها تلك المفردات.

 

          وتشبه هذه الزيادات – في ما ترى – الفضلة في الجملة،  ذلك أنها قد يستغنى عنها،  وتظل الجملة مفيدة،  غير أن بقاءها يضفي على الجملة معنى،  ويكسب معناها الأصلي وضوحاً وعمقاً وتحديدا.

 

          ونعتقد أن الناس قديماً لم تكن بحاجة إلى تطويل الكلام – والألفاظ - للتعبير عن نفسها ... ويلاحظ في هذا المجال أن الإشارة والأصوات التي لا تكتب والجمل القصيرة،  والمفردات المستقلة كانت أداة العملية اللغوية.  وما نرى الإنسان الحديث مضطراً للتوسع في استخدام المؤشرات والجمل الطويلة ( والكتب...) إلا لاتساع مجالات المعرفة،  وتشعبها،  وتطور أنماط الحياة،  وخبو توقد ذهنه وضعف ذاكرته وكثرة اشتغاله.

 

          ولو طبقنا ذلك على اللغة لصح لنا أن نقول " جسم حي " فيفهم السامع أن المقصود هو الجمل ... " وجسم يطير " ليفهم أن المقصود و الطائر ... ذلك لأن الإبل كانت هي الحيوان الوحيد الذي يعتمدون عليه في لبن ولحم وحمل وركوب وجلد ووبر وقربة... ولأن الطائر كان هو المحلق الوحيد في سمائهم في زمان لم تكن فيه الطائرات قد اخترعت.

 

          ولو طبقنا ذلك على الأصول اللغوية لوجدنا أن الحرفين الأول والثاني قد يقومان مقام " جسم حي" ومقام " جاء محمد " دون قولنا " راكبا " ونعتقد أن الإنسان قد تكلم بذلك بادئ الأمر،  وصرف هذين الحرفين لدلالة تقع على معنى تترجمه حركة جهاز النطق حال التصويت بهما وما يصاحبها من عمل كخروج الهواء أو غيره،  وبطريقة أو أخرى وهكذا.

 

          ثم تطورت الحياة وتعقدت،  فجدّت معان، فاضطر إلى زيادة صوت ثالث؛ لأن كل تغير في المعاني يحتاج إلى ما يعبر عنه،  ولما كان الصوتان 1، 2 لدلالتهما الأولى،  فاتسعت هذه الدلالة،  كان لا بد من الاتساع في الأصوات... ولا مجال لذلك إلا بالزيادة،  فكان ثالث،  فاحتاج إلى أكثر،  فزاد حرفاً رابعاً،  وتوصل بحكم ما مر به من تجارب إلى أسلوب جديد في تغطية العجز فكان الاشتقاق وملحقاته.  ثم التركيب،  تركيب الجمل فالكلام والكتب وهكذا...  وإذا سرنا في الاتجاه المعاكس كان للحرف الأول من الأصل دور الأساس في البناء. وما أشبه التعامل اللغوي بهذه الصورة بما كانوا عليه من مقايضة ... يشتري أحدهم ليأكل لا ليتاجر.

 

ونتوقف هنا عند الأصول اللغوية التي تبدأ بالنون فالفاء،  وذلك لتقليب ما تقدم من الكلام مطبقاً عليهما فنقول:

النون حرف أنفي:  ( وكذلك الفاء في بعض صورها،  بل لعل الأنف مسمى لعلاقته بها حيث يمكن أن تخرج منه). النون والميم مخرجهما الأنف... من الخيشوم،  ولا نجد أصلا تتصدره النون إلا كان لدلالة على ابتداء حركة ... وما ندري إن كان لهذا علاقة بكون الأنف مبتدأ عملية التنفس التي هي أساس حركة الإنسان وبدايتها... وقبل أن نستطرد نتوقف عند الأصول التالية: نبت، نبث، نشر،  نقل، نفر، نعب، نصب... أي أن الفاعل أو المفعول كان ساكناً ثم تحرك ... وفي المقابل،  فإنها في آخر الأصل تصرفه لدلالة تقع على معنى انتهاء حركة،  ولك أن تتبصر في:  سكن،  أمن،  حزن ( والحزن إلى سكون ) مدن ( بالمكان )،  عمن بالمكان أيضا، سجن، سدن ... الخ.

 

ونعتقد أن حرف النون لم يرد في كلمة "أنف" صدفة،  كما نعتقد أن أصل "الأنف " هو "نف" الذي هو حكاية الصوت المعروف عند إخراج ما فيه بضغط هواء الزفير.  وقد يقال ما هذه الهمزة؟  فنقول إنها همزة الحضور !  كهمزة ( أنا أنت أنتم )  وهمزة ( أخ  وأب وأم )  وهي همزة القطع ... تعكس بروزه في موضعه فكأنه انقطع عن سائر الرأس.  ثم تولدت معاني الأنفة والاستئناف اشتقاقاً من ( الأنف ) لتقدمه على سائر البدن ولشموخه في موضعه ... إضافة إلى ما اكتسبته الألفاظ المشتقة منه من المباني المصوغة فيها.

 

          ومن معنى الخروج الذي يترجمه الحرفان ( نف) تولد المعنى العام الذي هو القاسم المشترك بين المعاني التي تقع عليها دلالات جميع الأصول اللغوية التي تبدأ بالنون فالفاء مثل:

نفى      »  الحاكم المجرم ... أخرجه من البلد.

نفث     »  الحنش السم،  وفي العقدة إذا أخرج السم والهواء.  وكذلك الطائرة النفاثة.

نفج     »  النافجة والنفوج الريح السريعة، فكأن الدنيا تنفخ بها.

نفح     »  بمعنى نفخ.

نفخ     »  على النار إذا أخرج هواء الزفير قويا ..

نفد      »  الدقيق من وعائه إذا لم يعد فيه شيء منه ( خرج منه ).

نفذ      »  السهم من الرمية إذا خرج منها ...

نفر      »  الظبي من كناسه إذا خرج منه مسرعاً.

نفس    »  تنفس الصعداء إذا أخرج هواء الزفير على نحو ما.

نفط     »  زيت الأرض إذا خرج منها.

نفض    »  الثوب إذا أخرج ما كان عليه بتحريكه بشدة.

نفق      »  النفق والنافقاء من المخارج.  ومنهما النفاق.

 

          وقد يمر بنا من الأصول ما لا ينطبق الكلام على دلالته،  فيكون هذا النوع من الدلالات بحاجة إلى معالجة تأمل،  فقد تكون الدلالة معنوية،  فلا بد عندئذ من الرجوع إلى الدلالة الأصلية،  وهي دلالة مادية لا محالة،  ولكن قد تكون بائدة،  أو قد تكون كدلالة اللونين الأزرق والأصفر على اللون الأخضر ... الذي يتكون بمزجهما معاً... وهذا يستدعي أن نعود بالخيال إلى نمط الحياة الذي صاحب تكوّن اللفظ لدلالته.

 

          ويمكن أن نوجز ما تقدم،  بعبارة مختلفة،  تتمثل في أن الحرفين "نف" يعكسان جملة من مسند ومسند إليه،  والحرف الثالث بعدهما هو فضلة في تلك الجملة،  يوضح معناها ويوجهه.  فالنون تفيد ابتداء الحركة،  والفاء تفيد معنى الخروج،  وهذا يعني أننا أمام دلالة متداخلة من معاني الحركة والخروج،  فكأننا قلنا " جسم يطير " بمفهوم الناس قديماً،  أو جاء شخص ما ، أو ما هي كلمة حرفها الأول س وحرفها الثاني ج ؛ ولترجمة هذا التداخل نقول:

ن ف + س                          » حركة هواء خارج ( زفير )

}جسم يطير ( بالمفهوم القديم)      » طائر ( معنى مفرد )

}جسم يطير + حي ( بالمفهوم الحديث ).

س ج + ن                           »  حبس ( لفظ مفرد )

جاء شخص ما + مسرعاً           » ( معنى مركب ) ( هناك خبر !)

 

          وهكذا،  فإن الحرف الثالث من الأصل اللغوي يناظر الفضلة في الجملة،  يحدد المعنى ويوجهه، ويخصصه،  وهما يشبهان تماًماً ما يعرف ب " تشطيبات " البناء،  ذلك أن الأصل فيه هو أسسه وأركانه،  كما يشبهان الإطار من الصورة والغلاف من الكتاب ونحو ذلك مما يمكن الاستغناء عنه عند الضرورة... وتوجيه ذلك كله بأن دلالة الأصل تكون قد تحددت بنسبة عالية جدا بحرفيه الأول والثاني،  وقل مثل ذلك في الهدف من البناء في الأسس والأركان،  ومن الصورة بذاتها،  ومن الكتاب بمحتواه.  وكلّما زادت المكملات ( إن كان ذلك ممكناً وسائغاً) زادت الدلالات.

 

          ونعتقد أن أصولا كثيرة تتحدد دلالتها بحرفها الأول،  ويكون الحرف الثاني في هذه الحالة شبيهاً بالثالث في دوره في تحديد المعنى،  وهذا يؤكد أن أحرف الأصل تأتي مرتبة بحسب قيمتها وأهميتها في تخطيط الدلالة. وتأكيداً لذلك نورد الحقائق اللغوية التالية:

          أ. ما من أصل يتصدره صوت الغين إلا كان لدلالة تقع على معنى الحجب والاحتجاب جزئياً أو كلياً،  ونورد في ما يلي طائفة من الأمثلة:

 غاب – النجم وفلان: اختفيا عن الأنظار.

 غاث- ( دلالته معنوية ) ولكنها تفيد معنى سد الحاجة،  والسد حجب.  ولا بد أنه  كان لدلالة مادية تفيد نفس المعنى،  وما أطلق الغيث على المطر إلا من هذا القبيل لأن فيه ما يسد حاجة النبات والإنسان والحيوان.

غار – النجم والماء اختفى: ذلك وراء الأفق،  وهذا في الأرض.

الغائط .. من الأرض،  هو المنخفض الذي لا يرى ما فيه إلا حين الاقتراب منه.  وهذا من الاحتجاب والحجب.

 غام – والغيم إنما سمي به لعلاقة بدوره في الحجب والاحتجاب.  والغين مثله.

 غال _ ومنه قولنا أغيَلت المرأة.  وذلك إذا حملت وهي ترضع،  هذا المعنى مأخوذ من الغَيْل وهو الماء يجري تحت الحجارة وبينها.وهناك حمل تحت إرضاع ( متخالفان ) وهنا سيولة تحت صلابة الحجارة ( متخالفان ) إضافة إلى ما في ذلك من اختفاء هذا وراء ذاك.  والغِيل أيضاً،  هو الأجمة الملتفة،  ومن شأنها أن تحجب ما يكون فيها ...

 

 وقد يطول بنا استعراض الأصول الغينية،  ولكن، تقريباً للصورة من ذهن الدارس،  نورد في ما يلي طائفة منها دون بيان لدلالتها،  تاركين ذلك للتأمل والتبصر،  فمن ذلك: غبار،  والزمن الغابر،  والغباء ( احتجاب العقل )،  والغفوة،  والغفير( السحاب الذي يكلل الجبال) والغرق والغرف،  والغروب، وانغمام الهلال،  والغمام، والغلاف،  والغلس والغُدفة ( ما يلقى على الجبين من غطاء الرأس ) والغدر، الغرر ( على حين غرة) وقد يقال هنا: ماذا نقول في الغرة من قولنا أغر محجل؟ فنجيب عن هذا السؤال بأن الغرة – وهي بياض في لون سائر الجسم – تخفي لون البقعة التي تقع فيها ...

          ب . الحرفان الأول والثاني يقومان بالدلالة:

          قلنا سابقاً إن الشيء قد يعرف بحدين،  وكذلك الشكل،  فالمثلث على سبيل المثال يمكن تخطيط ضلعه الثالث بمجرد معرفتنا بضلعيه الأول والثاني،  وتستطيع أن ترسم مربعاً أو مستطيلاً أو أي شكل ذي زوايا منتظمة بمجرد معرفتك بضلعين من أضلاعه هكذا:                                                     

 


         

   ( الضلعان المعلومان خطان متصلان،  والأضلاع المستكملة مرسومة بالنقط)

 

والمعنى المركب أيضا ... مثل قولنا: محمد تلميذ ... ولو لم نقل مجتهد ... وكثيرا ما يمكن إكمال الجملة بألفاظ مناسبة استدلالاً بالمقام والقرينة والحال ... ولتوضيح ما تقدم بالمثال اللغوي نأخذ الفعل الرباعي (الأصل) زقزق، ووزنه الصرفي فعفع، وليس فعلل كما يشاع، لأنه قائم على تضعيف الحرفين الأول والثاني للذين هما قوام الأصل الأول ... (زق) وينصرف لدلالة تقع على معنى إخراج صوت معين ( من الطيور ونحوها) ولما كان ذلك من الطيور لا يكون إلا على نحو متكرر متلاحق فقد عبروا عنه بتكرار الأصل ( زق +زق ).

 

          ويقطع بهذا التوجيه ما أسلفنا من أن ثمة أصلاً آخر ينصرف لدلالة تقع على صوت نوع من الطيور يضم عقب الزاي والقاف ألفا ( واواً ) وهو ( زقا ) يزقو،  بمعنى صاح يصيح،  ويخص بالهامة والبوم،  وقد يطلق على أصوات الطيور بعامة.

 

          بعبارة أخرى،  أكتُفي بتكرار الحرفين اللذين يعدّان قوام الأصل،  واللذين ينهضان بالدلاله على تكرر حدوث الصوت المعهود من العصافير ... وبإضافة ( واو – ألف) لهما للنهوض بالدلالة على حدوث صوت آخر مشابه. ويمكن أن نتعقب هذه المسألة في المفردات والأصول التالية:

 

دلدل    »  دلا ( ومنه الدلو ) وأدلى _ دلّ؛ يدلو، يدلي: والدليل يكون متقدماً على صاحبه كالدلو على الرشاء،  وكلاهما على طريق ممتدة: قُلُب البئر أو الرشاء وذلك على الطريق...

جرجر   »  جرى

فرفر     »  فرى ( بمعنى شق ( وقطع ) الجلد).

رقرق    »  رقى بمعنى جف.

سفسف »  سفى

 

          وليس هذا شأن ما ثُلّث بألف ( واو أو ياء )،  بل يصح في ما ثلث بأي حرف،  ولك أن تتعقب ذلك في:

زلزل              »  زلق أو زل أو زلج أو زلف ...

         ( والمعنى الجامع هو التحول عن المكان،  أما زلزل فتحول متكرر لأن الزلزلة رج وهز،  وهذان من التكرار).

زقزق    »  زقا، زقر (الديك:صاح).

خلخل »   خلا، خلق، خلب ،خلع ،خلص ،خلف ، خلس ، خلج !

         (والمعنى   الجامع هو الإزاحة والتحويل والانتقال ).

 

                   وجدير بالذكر أن عامة الناس حين يريدون التعبير عن معنى يتكرر حدوثه بشكل متصل أو متقطع، غالبا ما يستخدمون أفعالا على وزن ( فعفع ) كشمشم ولفلف ورخرخ وسبسب ومغمغ ومرمر..الخ. .

 

          ويلاحظ في الأمثلة السابقة أن الأصول من وزن ( فعفع ) تنصرف لدلالات تقع على معان متقطعة متكررة ... ولا متكرر إلا كان لتقطع، بينما الأصول التي تثلثها ألف ( واو أو ياء) فهي لدلالة على المعاني نفسها، لكن دون الاتصاف بالتكرر والتقطيع ... فالخلخلة إلى تكرار، اما الخلا – بمعنى القطع، والقطع إزاحة وتحويل – فهو لا يتضمن معنى التكرار، وكذلك زقزقة الطيور و زقو الهامة ... ويصدق الكلام إلى حد بعيد جدا – على ما ثلثه حرف غير الالف ...

 

          وجدير بالذكر أن جل المعاني التي تنصرف لها المفردات من وزن ( فعفع )   – إن لم نقل كلها – تدل على أصوات بعينها، وتفسير ذلك أن المعنى المتقطع المكرر أليق ما يكون بالأصوات، بل إن هذه هي حقيقة الأصوات، وإلا لماذا استمرت لبعض الوقت، وتميز بعضها عن بعض. وقد تنبه رفائيل نخلة في غرائب اللغة ( الكاثوليكية، الطبعة الثانية ص (44-49) ) إلى هذه الحقيقة دون أن يحللها أو يعلل ظواهرها.

 

          وتقودنا هذه الحقيقة إلى تساؤل خطير يتمثل في قولنا: أليست المعاني جميعا متحولة عن أصوات تماما مثلما هي الألفاظ التي تعبر بها عنها ؟ فكأن هذه أصوات من مستوى أولي والمعاني من مستوى آخر ( معنوي ) ويرشح ذلك أن كلا من الأصوات ( الألفاظ ) والمعاني هي حركات لكن من أجناس مختلفة،تماما كما هي العلاقة بين الكهرباء والصوت من الراديو، أو الكهرباء والمغناطيس من أي مولد.

 

          ج- ومما يؤكد ما تقدم أن القلب المكاني لا يحدث إلا بين الحرفين الثاني والثالث من أحرف الأصل. ذلك أنهما مسندان للحرف الأول الذي هو العمود الفقري لدلالة، ومن ذلك:

      عسف » عفس

      جذب » جبذ

       عقرب» عرقب

       صاعقة» صاقعة

 

          أما ما يقال عن حادي (عشر ) من أنها مقلوب ( واحد ) فله تخريج آخر يتمثل في أن( واحد عشر ) يقتضي تحريك خمسة أحرف متوالية هي الحاء والدال والعين والشين والراء، وهذا مما يستثقل، أما حادي ( عشر ) فهو مما يستخف، ولذلك كان القلب، هذا ما لم نقل إن حادي (عشر ) فاعل من حدا يحدو (العيس والعشر ) والحادي هو الذي يكون في مؤخرة القافلة يستحث الإبل على السير ... وكذلك الواحد بعد العشرة حيث يصح تشبيهه بذلك. ومما يرشح التخريج بالعدول عما يستثقل إلى ما يستخف أنهم يجيزون أن نقول " الواحد والعشرون " لنقص عدد الأحرف المتحركة المتوالية.

 

أصول مهملة:

          يقف المطالع في المعاجم على أن ثمة أصولا مهملة، وقد علل اللغويون قديما   ( ابن جني ) هذه الظاهرة بأن بعض الحروف لا تجتمع معا في كلمة واحدة كالجيم والقاف، ولكن هذا التعليل لا يصدق على بعض الظواهر التي تندرج تحت الموضوع، حيث نجد بعض الحروف اجتمعت في أصل ما لدلالة بعينها، ولكنها تأبى أن تجمع في أصل آخر بترتيب مختلف، أو، بعبارة أخرى، إذا كان الأصل من ثلاثة أحرف، فإنه يتولد لدينا بتقليب أحرفه ستة أصول مختلفة، ينبغي أن يكون لكل منها دلالته الخاصة مثال:

ح م ل – الحِمل ترفعه و...

ح ل م – الحُلم تراه في نومك و...

ل م ح – اللمح بالبصر...

ل ح م – اللحم نأكله و...

م ح ل – المحل الجدب و...

م ل ح – الملح في الطعام و...

          غير أنا نجد أصولا تأبى حروفها أن تتقلب على هذا النحو، مثل:

ن ص ر: النصر من عند الله

ن ر ص ؟

ص ر ن ؟

ص ن ر: الصنارة نصطاد بها السمك !

ر ص ن: رصين ثقيل ...

ر ن ص ؟

ومثال آخر :

ع م ل: العمل والعمال ...

ع ل م: الله عليم بذات الصدور ...

م ع ل ؟

م ل ع : المليع البعيد ...

ل ع م ؟

ل م ع : السراب والمرآة والبرق ...

          حيث نلاحظ أن ثمة ( أصولا ! ) لم يرد منها في الكلام شيء ولو كان لفظا واحدا، إن في هذه الحقيقة ما يدعو إلى إعادة النظر في تعليل ابن جني لهذه الظاهرة وإلى البحث عن توجيه آخر لها.

 

          وقد نجتهد في هذا النظر فنقول: إن الأصوات كالقيم العددية في دلالاتها؛ يتحكم فيها موقعها وصفتها من السلب والإيجاب والطبيعة، فثمة أعداد فردية وأخرى زوجية، والواحد في منزلة الآحاد واحد، وفي منزلة العشرات عشرة، والصفر عن يمينه تسعة وعن يساره لا يعدل شيئا.

 

          وشبيه بذلك ما نجده في المعادن والفلزات والعناصر والألوان. فالسكر أخو الملح، غير أن هذا حلو وذلك ملح ! وهذا المعدن سالب الشحنة وذلك موجبها، وهذا لون أسود أضف له قليلا من أي لون فإنه لا يؤثر فيه، بينما ذلك أبيض إن أضفت إليه أدنى قدر من أي لون فإنه يؤثر فيه ...

 

          والأصوات ( الحروف وغيرها ) تتذبذب بين حدين. سواء أردنا حدي تذبذب الصوت نفسه، أم حدي المصدر، ذلك أن حدوث الصوت يحتاج إلى جسمين على الأقل، لأنه نتيجة احتكاك، والاحتكاك يقتضي محتكا ومحتكا به، وهذا هو أدنى الحدود لحدوث الصوت ... ومن هنا كانت الأشياء المسماة لعلاقة بالصوت أدنى بكثير من الأشياء المسماة لعلاقة بالنظر .. لأن العين تدرك الآحاد... أما الأذن فلا تدرك إلا الأصوات الناتجة عن اثنين على الأقل، وبالقسمة الرياضية تكون هذه نصف تلك.

 

والأصوات كالألوان... يلغي بعضها بعضاً،  ويدخل فيه أو يستوعبه مخفياً أثره، فقد يكون صوتان كالقيمتين العدديتين – 1، + 1 فتكون المحصلة صفرا، وما هي جدوى أصل لغوي دلالته صفر ؟ ولا ننسى هنا موقع الحرف وأثره، وموقع الحرفين الآخرين واختلاف أثريهما ..وهكذا. .

 

          ولتمثيل ذلك بملموس، خذ نغمة موسيقية منبعثة من وتر عود... هذه النغمة حادثة من احتكاك الريشة والوتر ... فتصور أن أحدا وضع يده على الوتر أثناء الضرب عليه ! هل كانت النغمة المعهودة ستصدر عن العود ؟ أو بعبارة أخرى، هل كان أثرها في النفس سيكون هو إياه ؟

 

          وهذا ماء بارد ... يضاف إليه ماء حار ...فيتعادل الكل: يفقد هذا من حرارته ويفقد ذلك من برودته ... فإذا كان المطلوب من الماء هو ذلك الكل بارداً، أو حاراً، فإنه بإضافة هذا إلى ذلك لا يكون قد تحقق.

 

          ونعتقد أن هذه الحقيقة – حقيقة أن لكل صوت شحنة ودلالة – هي التي تقف وراء عدم ورود بعض الأصول، وعدم التقاء بعض الحروف في الأصل الواحد، ذلك لأن صوتا قد يلغي دور آخر، أو أن صوتين من أصوات الأصل الواحد قد يتعادلان في محصِّلة تساوي صفرا،  فلا يكون لذلك الأصل دلالة واضحة بينه... ومن ثم لا يجد له سبيلاً إلى عالم اللغة، وليس شرطا أن يكون ذلك ناتجا عن طبيعة هذا الصوت أو ذاك وحسب،  ولكنه ربما اقترن به،  أو أدى إليه،  موقع الصوت     (الحرف ) من الأصل،  كأن يكون أولاً أو ثانيا أو ثالثاً وهكذا.

                                     

الأصول الثنائية الحية:

 

يقف المطالع في التراث اللغوي على كثير من الأصول الثنائية أسماء ومعاني (1) لاصقة بالإنسان مثل ( أب، يد،  أخ، فم،  أو فو،  ذو (2) ذا ( اسم إشارة) ونحو ذلك كحروف الجر ( في، عن، من) وأدوات الاستفهام ( من، هل، أي). وما نرى اسم الفعل "أف" الذي يعبر عن التبرم والتضجر إلا من هذا القبيل،  وما تشديد الفاء إلا من باب توكيد التبرم والتأفف لأن الفاء الثانية،  بقدر ما تضعف الصوت المسموع،  فإنها تؤدي إلى تضعيف المعنى الحاصل من سماع الأولى.  كما أن في التصويت بها ترجمة حية لمعنى التنفيس من جانب والكبت الذي هو شعور بالضيق نتيجة للصراع النفسي بين القبول بالواقع أو المعروض ورفضهما من جانب آخر،  لأن الهواء يخرج من الرئتين بشدة،  ولكن الشفتين تحولان دون انطلاقه على النحو الذي نستظهره في ضمهما أثناء لفظ الفاء ... فالخروج تنفيس،  وضم الشفتين كبت.

 

          ونعتقد أن الأسماء التي تبدأ بهمزة الوصل،  مثل ( ابن، اسم) هي ثنائية لا ثلاثية،  ويؤكد ذلك أن همزة ( ابن ) تحذف عند التأنيث ( بنت) وإن كان يصح أن نقول في بعض الأحوال ( ابنة ).  ويجمع على " بنين" جمعاً ملحقاً بالسالم بحذف الهمزة كما تجمع ( بنت وابنة) على بنات وليس على " ابنات".

 

          ثم إن الفعل من الاسم بلا همزة،  نقول: سمّاه اسما... وهي التسمية... وفي الجمع على أفعال وغيره تجد الفاء تناظرها السين ... مباشرة... وإنما جيء بالهمزة تسهيلاً للنطق.  وأما ما يقال من أن الهمزة عوض عن واو محذوفة في آخر " الابن والاسم" فهو وجه لا دليل عليه إلا ما يرشحه النظر في الجمع، حيث تلحقه الهمزة        ( أسماء وأبناء) وحيث يقال إن الهمزة منقلبة عن واو محذوفة في أصليهما.... وما نرى ذلك إلا تكلفاً،  ولأن جمع ما كان من حرفين لا يصح دون إلحاق بذي الثلاثة ... ولأن الجمع أقله ثلاثة؛ وإلا فأين هي الواو من بنت وبنات؟

 

          ونعتقد أيضا أن كل الأصول ذات الدلالات اللصيقة بالإنسان، مما ورد مضعفاً ( ثالثه كثانيه) هي في الأصل ثنائية،  وكذلك ما ينتهي بألف أو تاء،  مثل: أمّ،  وعمّ (3)،  وشفة،  وبرة،  وقلة،  وكرة،  وعضة ( وهذه الثلاث مما يجمع ملحقاً بالمذكر السالم بحذف التاء) (4)،  وكفّ وخدّ وسنّ ونحو ذلك.

          ومما يغري بالأخذ بنظرية الأصول الثنائية أننا نجد بعض المفردات الثنائية         – والمشكلة من حرف واحد – كثيراً ما تأتي متصلة بحرف ثالث لدلالاتها الأصلية،  فخذ مثلاً بل وبلى حيث تفيدان معنى الإضراب،  بل إن "بلى" وردت بمعنى بل في بعض آيات القرآن الكريم (5).  كما تقع اللام مقام إلى،  والميم مقام "من" من أحرف الجر،  وفو مقام فم،  ولِمَ مقام لِما. ونرى أن الثنائي يضعّف أو يضاف إليه حرف لتسيهل النطق،  وحسب،  كما هي الحال في أم وعم وشفة وابن .... أو لتحميله معنى جديدا على النحو الذي سنبينه.

 

          ومن هذه الأصول – الثنائية – كان تولد الأصول الثلاثية مع تقدم الزمان وتطور الحياة على الأرض،  فمن ( أمْ) وأصله (مّ التي تتولد فطريا عندما يلتقم الرضيع ثدي أمه، ومثلها أب،ببائها التي هي الميم نفسها، إلا أنها انفجارية كما سيأتي قريبا ) كان توليد:

 

·   أمم ( أمّ) بمعنى قصد وتوجه إلى ... ذلك أن الأمْ هي مقصد أولادها دائماً،  لا سيما في مرحلة الطفولة،  ومنه الأمة ( الجماعة الملتفة حول أم واحدة ولو كانت عقيدة).

·   يمم ( يمم  وجهه) قصد،  وهو بمعنى الأول،  ولعله هو لكن بتخفيف الهمزة.  وأعتقد أن الدلالة هنا للميم بما تعكسه من التئام وتضام يتمثلان في ضم الشفتين،  تماماً كما يلتئم شمل أطفال الإنسان والحيوان حول أمهم.  وهذا يجعلنا نقول إن الإضافة للأصل قد تقع في صدره أحياناً ... تماماً كما هي الحال في بعض المشتقات وجموع التكسير،  غير أن الإضافة لأواخر الأصول أولى وأغلب.

·   أمت ...  والأمت الاعوجاج،   والاعوجاج إلى تضام ... أما ترى لو أنك صححت الممعوج لطال وتباعد ما بين طرفيه؟ ثم أليس الاعوجاج انحناء إلى الداخل ولو بنسبة قليلة؟  والانحناء من التضام.

·    أمر ... " الأمر" التكثير ... قال تعالى ] وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها [  ( الإسراء 16) بمعنى كثرناهم ... والكثرة من التضام والضم.

·       أمس ... وهو اليوم قبل يومك،  يكون قد انضم إلى ماضيك،  أو إلى عمر الأرض...الخ.

·       أمن ... والأمن استقرار وقرار،  والقرار إلى ثبات في المكان،  وهذا من التضام،  فكأن المرء ينضم إلى مكانه.

·        

صوت الميم:

 

للميم علاقة واضحة بالأم ّ لفظاً ومعنى لكن من أين تولد الصوت والدلالة على الأم؟ بداية،  للإجابة عن هذا السؤال،  لابد من القول إن الإنسان صائت بطبيعته ... ويعبر بصوته عن نفسه،  وأن صوت الميم يتخلق في تجويف الفم ويخرج من الأنف،  أي أنه يحدث بتردد الصوت في الفم المغلق.

     والآن تعال معي نتصور العلاقة الطبيعية بين الطفل ( أول الناطقين) وأمه.  تلك العلاقة الطبيعية التي تقوم على الإرضاع... والإرضاع لا يتم إلا بإطباق الفم على حلمة الثدي ... والطفل غالبا ما يردد صوتاً أثناء الرضاعة كأنه يخبر أمه بالشكل والصوت أنه يريد أن يرضع ... ويتردد صوت الميم في هذه الحالة كثيرا،  ومن هنا كان الصوت،  وكانت دلالته على الأم ... فكأن اسمها ( مْ أو مّ أو أم).  ويرشح هذا المذهب ويرجحه أن هذا الحرف موجود في المفردات التي يعبر بها عن الأم في جل لغات العالم.

 

صوت الغين:

    

ويبدأ الطفل بترديده في فترة مبكرة،  أول ما يكتشف قدرته على إصدار بعض الأصوات،  وحين يجد نفسه محتاجاً إلى التعبير عن نفسه في حدود ما  يتفق مع حاجات سنه،  وهو من أول الأصوات ظهوراً مع الميم  والباء ... ولكن الباء تليهما وسنوضح ذلك في حينه.  وصوت الغين لا يبين عن شيء ...  وفي هذه الفترة – فترة المناغاة وهي مسماة لعلاقة بصوت الغين – لا يكون الطفل قادراً على الكلام،  ولكنه يكون قادرا على الإدراك والتمييز ... فصوت الغين يخفي وراءه معاني كثيرة ( نسبياً) وألفاظا كثيرة لو كان يستطيع أن ينطق بها ... ومن هنا اكتسب صوت الغين دلالته على معنى الإخفاء والتخفي والحجب والاحتجاب... بل إنه ما من أصل تصدره الغين إلا انصرف لدلالة تقع على ذلك المعنى.

 

     إن إكثار الطفل من التصويت بالغين ومد الصوت بها في مرحلة ما قبل النطق ببعض الألفاظ يشبه ترديد الطيور – العجم – بعض الأصوات تعبيراً عما تجده في نفسها،  ويشبه الفأفأة والأصوات التي يصدرها الأخرس عندما يريد التعبير عن نفسه مع الإشارة ...لا سيما إذا أدرك أن الطرف الآخر لم يع ما يحدّثه به.  وجدير بالذكر أن التلفظ بالغين لا يتطلب جهداً من الطفل أكثر من أن يكون فمه مفتوحاً على نحو معين.

 

صوت الباء:

 

              الباء أخت الميم ... غير أن هذه مخرجها الفم ... وكثيراً ما تنقلب ميماً لا سيما بعد النون الساكنة ( لَيُنْبَذَنَّ )،  ولكن التلفظ بالباء يحتاج إلى جهد أكبر ونَفَس أشد مما يحتاج إليه التلفظ بالميم،  ولذلك فإن التلفظ بها يتأخر عن الميم،  والباء صوت انفجاري،  أي أنه يسمع من مكان أبعد ... والأب دائماً أبعد من الأم من الطفل،  ولهذا كانت الباء في اسمه ( أب – بابا)... فكأن الطفل هو الذي أسمى والديه المتلازمين بهذين الاسمين لعلاقة بصوتي الميم والباء المتلازمين اللذين يرتبطان بهما على النحو الذي أسلفنا!

 

قدرة جهازنا الصوتي:

 

     يصدر جهاز الإنسان الصوتي كل الأصوات التي يستطيع سمعه أن يدركها مهما كانت صفتها.  والأصوات معبرة دائما... فنحن نعرف أن المار سيارة دون أن نراها ... يكفي أن نسمع صوتها فقط ... ونسمع البكاء فنعرف الباكي إن كان صغيرا أو كبيراً وندرك أن مصدر الصوت يتألم لسبب أو لآخر ... إن الصوت حدث ... ولكل حدث دلالته الخاصة ...

 

     ويلاحظ المتأمل في الأصوات التي تصدر عن غير الإنسان أنها متجانسة أحادية النغمة ... فصوت البقر متجانس إلا ما كان لاختلاف أسنانها... وكذلك أصوات الإبل وأصناف الطيور ... أما صوت الناس فمختلف في صفاته من إنسان لآخر ومن حرف لآخر ... ، وهو مركب أيضا ، وللوقوف على مقدار ذلك خذ مثلا الموج والحمار والديك من ناحية والإنسان من ناحية أخرى ... وقارن طبيعة أصوات المجموعة الأولى بصوت الإنسان ... تلك أصوات أحادية تجري على وتيرة واحدة ونمط واحد ... أما الإنسان فصوته يتردد بين همس وجهر وصفير وإطباق وغير ذلك مما تعكسه أصوات الألفبائية، والأصوات الأخرى المعبرة كنقرة مقدم اللسان عند الرفض، بمعنى لا، ونقرة جانبه عند الإيجاب، بمعنى نعم. ومن ذلك (أف) التي هي في الأصل ( فاء ) يرسلها المصدور نفثا يروّح بذلك عن نفسه عند رفض شيء يشعر أنه ملزم به، والآه التي هي حكاية صوت المتأوة، ونحو ذلك.

 

        ومن هذه القدرة على إصدار الأصوات تمكن الإنسان من تسمية أصوات الحيوانات وغيرها بما يتناسب معها من أصواته، فسمى صوت الماء الجاري خريرا، وصوت الحية فحيحا وصوت الضفدع نقيقا وصوت العقرب عندما تلدغ صيئا والباب و الجندب صريرا، والبقر خوارا، والإبل رغاء ...

 

الطفل يكتشف قدراته الصوتية:

 

              وفي مرحلة تالية، يبدأ الطفل في اكتشاف قدراته، وذلك من خلال ما يهتدي إليه بالصدفة من الأصوات، وبتقليد ما يعيه من أصوات من هم حوله، لا سيما أمه، ويأخذ معجمه الصوتي في التوسع بمقدار ما تتسع مداركه وما يكتسبه من المعاني والمعارف الأولية. وتدريجيا، يبدأ الطفل بتركيب الأصوات في مفردات، وفي مرحلة لاحقة يبدأ في تركيب المفردات في جمل وعبارات.

 

                 إن لغة الطفل تتدرج من اعتماد على الصوت الواحد ( الحرف ) يكرر بمفرده أحيانا، أو يصوت به مرة واحدة من حين لآخر، إلى اعتماد على الصوتين اللذين غالبا ما يكون أحدهما حرف علة، ومرد ذلك إلى أن حرف العلة حركة طويلة يجري معها النفس، فهي بذلك تريح جهاز النطق، وتمكن من اختيار الصوت التالي، على العكس من الحركات القصيرة ... ونلاحظ أن الإنسان إذا تلعثم أو ارتج عليه فإنه يمد الحركات القصيرة فتغدو طويلة و أطول ... كأنه بذلك الصوت الممدود يسعف نفسه عسى أن تقع على الألفاظ المطلوبة ... وهكذا إلى أن تكتمل لديه الملكة اللغوية.

 

نشأة اللغة الأم:

 

             ترى هل يصح أن نقيس نشأة اللغة الأم بنشأة اللغة عند الطفل ؟ يبدو أن وجوه التناظر كثيرة، ويكفي لتوضيح التقارب التناظر بين اللغتين أن كلا منهما تبدأ فقيرة محدودة، وتنمو بعد ذلك بشكل تراكمي، تماما كالنهر يبدأ بجدول ثم لا يلبث حتى يكبر بما ينتهي إليه من مياه الروافد التي تصب في مجراه من مكان لآخر ... ولك أن تقارن بنهر النيل من أوله " نهير كاجيرا" إلى مصب فرعيه في البحر المتوسط.

            لم يكن لدى الإنسان قديما من المعارف ماله اليوم، وسيكون له في غد أكثر مما لديه اليوم ... وهذا يعني أن اللغة بدأت بألفاظ تعكس مبلغ الإنسان من العلم، وقد كان محدودا جدا ينحصر في صيد ومأوى، ثم دخلت النار مجال علمه ومعرفته، وتطورت من بعد آلته، وهكذا دواليك حتى وصل إلى القمر وصنع الأجهزة الإلكترونية. وإن نظرة عاجلة في تطور المعارف والصناعات في الأربعين عاما الماضية لتقفنا على حقيقة مذهلة.

 

ماذا علم الله – سبحانه وتعالى – آدم عليه السلام ؟

 

         ذهب المفسرون واللغويون في تفسير قوله تعالى: ]وعلم آدم الأسماء كلها [ ( سورة البقرة الآية 31) مذاهب شتى (6)، فمن قائل إنما علمه أسماء الملائكة، وقائل ذهب إلى أن المقصود أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب، وهناك من ذهب إلى أن المقصود هو اسم الصفحة والقدر، وذهب آخرون إلى أن المراد هو اسم كل دابة وكل طير وكل شيء، وقيل بل هي أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها، كما قال ابن عباس، رضي الله عنه، حتى الفسوة والفسية، يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر.

 

              وأعتقد، إن كان لي أن أجتهد في هذا الموضوع، أن آدم، عليه السلام، علم بالإلهام المعاني المفردة والأصوات التي تدل عليها – دفعة واحدة، بدلا من أن يكتسبها بالتجربة التي تتطلب وقتا طويلة، وهذا الاجتهاد ينسجم مع ما ذهب إليه ابن عباس في السطور السابقة. فعلِّم أن يصوت بالفاء، وأن دلالة ذلك الصوت تقع على معنى التفرق والانتشار، وعلم أن يصوت بالغين، وأن دلالة هذا الصوت تقع على معنى الحجب والاحتجاب، وهذه كلها من الأسماء، لأن الاسم هو العلامة على المسمى والمعنى ... وعلم آدم، عليه السلام، بعض أسماء الأعلام، وتحديدا الملائكة الذين كانوا حاضرين أحداث الآية الكريمة السابقة.

     وبعبارة أخرى، نستطيع أن نقول إن عقلية آدم عليه السلام قد برمجت حينذاك، فغدا قادرا على توليد الألفاظ اللازمة للمعاني والمعارف التي كانت تعمر حياته آنذاك، وليس شرطا أن يكون تعبيره بألفاظ لها طبيعة ألفاظنا، ولكنها تقوم على أساس من البرمجة المذكورة، التي تمت بموجب ما علمه الله – عز وجل – إياه، من أن لكل اسم معنى، ولكل صوت دلالة. فقد يكون استخدم أصولا من صوتين، أو أكثر، أو أقل ... ثم كانت من بعد ذريته، وتوارثت نفس البرنامج، وتداخلت الظروف والطبائع، وانشعبت الذرية إلى شعب كثيرة، فاختلفت اللغات والألسن، ولكن العربية وبعض اللهجات التي تنسب إليها ( كالعبرية والآرامية والحبشية ... ) ظلت محافظة على ما ورثته، مصدقة بالعلاقات التي تربط ألفاظها بدلالاتها المادية ما برمجت عليه عقلية الجد الأعلى آدم، عليه السلام ... شانها في ذلك شأن ما برمجت عليه الكائنات كحبة القمح مثلا إذ تحتفظ بداخلها بطاقة وبرمجة كاملة تمكّنها من المحافظة على استمراريتها بما اختزل فيها من ورق وجذور وساق وبذور، وكالبيضة بما تحتويه من ريش ولحم وعظم وغير ذلك مما نجده من بعد شاهدا على عظمة المبرمج الأول والآخر.

 

               وقد استطرد هنا لأقول: إن صانع الحاسوب أو أي جهاز من الأجهزة يزوّده بدليل تشغيله أو ما يعرف ب manual) ( وقد زودنا البارئ الذي خلقنا وبرمجنا بخير دليل تشغيل هو ما جاء به الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، من قرآن كريم وسنة مطهرة لأنه الأعلم بمن خلق، وبما خلق؛ لو نتفكر في ذلك!

 

     كما أنه لا يستبعد أن يكون آدم، عليه السلام، ومن عاش قريبا من زمانه من خلفه قد اهتدوا – وفق البرمجة نفسها – إلى ألفاظ وأصوات تعبر عن هذا المعنى أو ذاك غير التي نستخدمها لها، ولتوضيح ذلك نضرب المثل التالي: إن المعنى (9) – أو المسمى – يمكن أن يعبر عنه، ويُتوصل إليه بطرق لا حصر لها،  مثل

9 = 3 x 3 ،         9 = 3 +3 +3 ،      9 = 1 + 8 ،          9 = 7 + 2 ، 9 = 119– 110 ،    9 = 92 _ 83 ،     9 =    63÷ 7 ،   9 = 36÷ 4 وهكذا إلى ما لا نهاية له.

 

          وبهذا تكون 3 x 3 مرادفة لكل ما جاء بعدها، ولا اختلاف بينها إلا فيما يقع عليه العدد ... أقصد المعدود الذي قد يكون بقرا أو حجارة أو أرغفة أو نحو ذلك. ومن هنا نستطيع أن نفسر ظاهرة الترادف واختلاف لهجات القبائل. فالسمسم المعروف واحد في كل مكان، ولكنه السمسم في لغة والجلجلان في لغة أخرى، والتين هو التين ... أو القهدة أو الحماط أو البلس أو الكرموس... الخ . بل إن في ذلك ما يفسر اختلاف ألسن الناس أجمعين.

 

          وصوت الجرس حنين ... أو رنين، وهذا صفير وذاك زفير، وهذا نعيب وذاك نعيق والآخر نغيق والرابع نهيق والخامس نقيق، وهي جميعا أصوات اختلفت صفاتها قليلا فاختلفت ألفاظها بنفس النسبة تقريبا. وقد أشار إلى هذه الظاهرة ابن جني في حديثه عن تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني في خصائصه حيث أفرد لها بابا مستقلا.

 

أحرف الأصل اللغوي:

 

          لكل أصل دلالة تقع على معنى، تماما كما أن لكل صوت مفرد دلالة، مهما كان مصدره. وقد نشبه الأصل بالحبل، والدلالة بالوظيفة التي يقوم بها. فأصل من صوت واحد ( حرف ) وحبل من فتلة واحدة ... وأصل من صوتين وحبل من فتلتين، وأصل من ثلاثة، وحبل من ثلاث، وهكذا، وكلما ازدادت الأصوات والفتلات ازدادت الدلالة ... وعظمت الوظيفة ... وكل اختلاف.

 

          ولما كانت طبائع الأصوات مختلفة، كانت دلالاتها كذلك، تماما كأنواع الحبال أيضا، فحبل من ليف وحبل من مسد وحبل من شعر وهكذا، وصوت مهموس وآخر مجهور، وصوت مطبق آخر غير ذلك ... وهذا أول وذلك ثان والآخر ثالث... وهذا يجعلها شبيهة بالأرقام في منازلها حيث تختلف قيمة الرقم الواحد باختلاف منـزلته. ولتوضيح ذلك قارن بين، رد ودر، حل و لح، شع وعش، فالرد تراجع وإرجاع، والدر سماحة وعطاء، والحل نقيض الشد والعقد، والإلحاح تشديد، والشعاع الضوء المتفرق    والعش هو المتفرق الملموم من القش على النحو المعهود.  والفصل إلى تفريق مجتمع، والصف إلى تجميع متفرق، والرج خض في الموضع، والجر تغيير في المواضع مع خضخضة. والبر حبوب متفرقة، والرب متفرق أصلا ثم دوخل بين أجزائه وهكذا.

 

          ويستمر الإنسان في التركيب اللفظي استجابة للتراكمات التي تطرأ على مسيرته الحضارية فلم يعد يكفيه صوت لدلالته، ولا اثنان، فضعف الثاني، ثم ما لبث أن خالف بين مضعفه وغيره من الأصوات، فإذا بالثنائي المضعف يمهد لتوليد سبعة وعشرين أصلا جديدا ... يصلح كل منها للتعبير عن دلالة مستجدة.

 

          وازدادت الدلالات والآحاد المعرفية، فاهتدى إلى أحرف الزيادة، فإذا بها تكسب الأصول دلالات إضافية جديدة ... غير أن هذه لم تعد تفي بالغرض، فاهتدى إلى الصيغ والمباني، فأمكنه ذلك من توليد مزيد من الألفاظ للمعاني المختلفة وهكذا ...

 

          وكان في أثناء مسيرته هذه قد اهتدى إلى نوع آخر من التركيب هو تركيب  الجملة ... والفقرة فالمقالة والكتاب، فإذا به يمتلك رصيدا ضخما وذخيرة لا تنضب من الألفاظ والعبارات تمكنه من التعبير عن مناشطه في مراحل حياته المختلفة، وفي أطواره الحضارية المتراكبة، وعن أوجه تفاعله مع البيئة بمفهومها الشامل. وصدق الله العظيم إذ يقول ] وفي أنفسكم أفلا تبصرون [ (7).

 

 

 

 

الهوامش:

1.  مراعاة المنع من الصرف أولى من مراعاة الجر، لأن الجر عارض والمنع أصيل. والممنوع من الصرف يقتضي فتحة بدل الكسرة، والفتحة لا تستثقل على الياء، ولذلك يجب أن تظل الياء ولا تحذف.

2.     أعتقد أنهم كانوا يعبرون بها عن الصفات مضافة إلى المادة التي تكسبها مثل: ذو المال بدلا من الغني، وذو يزن وهكذا.

3.  اعتقد أن (مع) هي مقلوب عم، ولا يزال بعض العرب في شمال إفريقية يستخدمون عماك بدلا من معك... ولعل معنى(المعية) آت من معنى العمومة، لأن العم اخو الأب، وغالبا_على الأقل قديما_ ما يكون الأب والعم معا.وفي العبرية عم تعني مع.

4.     نرى أن هذه التاء للإفراد في المكان، بدليل جمع العضه على عضاه، بإضافة ألف 0والمد نظير الكثرة).

5.  مثل قوله تعالى: ( أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرّة فأكون من المحسنين. بلى قد جاءتك آياتي فكذّبت بها..)الزمر 58-59. وقوله في سورة البقرة (وقال لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيّّّّهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربّه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 111، 112.

6.     ابن كثير_ تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية، بيروت 1408هـ، 1\111_113.

7.     سورة الذاريات، الآية 21.