السيوطي/ قراءة في مقدمات كتبه

yahyaj's picture
Published at: 
الخفجي/ السعودية
1991
Year: 
1991
السِّيوطي قراءة في مقدمات كُتِبه أ.د. يحيى جبر من نافلة القول أن نُعرّف بالإمام السيوطي , فقد عرّفنا هو بنفسه في كتابه _ حُسْن المحاضرة _ وعرض علينا جانباً من سيرته (1) , كما قدّم لنا غيره تعريفاً به على نحو ما نجده في كتب التراجم التي صُنِّفت من بعده . ولكنّا نسعى في هذه السطور إلى التعريف بالعوامل , والمقدمات التي أسهمت في توجيه حياة السيوطي , وصياغتها على النحو الذي أدّى إلى النتائج الكبيرة التي تجسدها شخصيته ممثلة في ذلك السيل الزاخر من المصنّفات التي خلَّفها الإمام . وأول تلك العناصر أن أباه كان عالماً ذا فنون , وعلى قدر عالٍ من التبصّر والمعرفة , وبرع في الفقه والأصلين , والنحو , والصرف , والمعاني , والبيان , والفرائض , والحساب بأنواعه , والمنطق , والوثائق , وكانت له اليد الطولي في الإنشاء مطنباً وموجزاً , وأفتى سنين , وانتفع به جماعة من الأعيان , وألف ....(2) وثاني هذه العناصر أنَّ حياة السيوطي كانت في أواخر العهد المملوكي , حينما راح السلاطين يشجعون العلماء , ويؤسسون المدارس ؛ خدمةً للدين , وتعظيماً له ولأهله , وذلك طمعاً منهم في التقرب من الشعب , واستمالته لتوطيد سلطانهم الذي راح يترنّح , بعبارة أخرى عاش الإمام السيوطي في حقبة كانت فيها سوق العلم رائجة , بالرغم من تردي الأحوال الاجتماعية والسياسية . وثالث هذه العناصر أن الرجل لم يخلد إلى الإقامة بمصر , وإنما راح يطوف في الآفاق الإسلامية , فمن بلاد مالي , والتكرور في غرب إفريقية إلى بلاد الهند شرقاً(3) ومن شأن الترحال أن يثري التجربة , ويزيد المعرفة , ويكسب صاحبه سمعة وحمدا . ولعل ذلك كان من وراء انتشار مخطوطاته في الخافقين . ورابع هذه العناصر أن السيوطي كان ذا نفس عالية , عريض الآمال بعيد المطامع , لكأنه أخذ من المتنبي قوله : وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام فاجتهد حتى اجتهد نفسه , وكانت نفسُه الكبيرة سبباً في تحامل كثير من علماء عصره , وفي مقدمتهم : السخاوي صاحب الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع . ومن تعظيمه لنفسه أنّه كان يرجو أن يكون مجدد الدين للأمة الإسلامية في أواخر القرن التاسع الهجري , انطلاقاً مما ورد في الأثر من أن الله سبحانه وتعالى يبعث على رأس كل مئة سنة رجلاً يجدد به الدين . ومما ورد في رسالته " الكشف عن الألف " قوله : " أن ثمَّ من ينفخ أشداقه , ويدّعي مناظرتي , وينكر على دعوى الاجتهاد , والتفرد بالعلم على رأس هذه المائة , ويزعم أنه يعارضني ويستجيش عليَّ بمن لو اجتمع هو وهم في صعيدٍ واحد , ونفخت عليهن نفخة واحدة صاروا هباءً منثورا "(4) كأنا بالمتنبي يتكلم قائلاً : أنا في أمةٍ تداركها الله غريب كصالح في ثمود ويقول : واقفاً تحت أخمصي قدر نفسي واقفاً تحت أخمصي الأنام إنَّ الجدل الذي ثار حول السيوطي في زمانه , وموقف نفر من العلماء منه كانا حافزين حدوا به إلى مضاعفة جهوده ونشاطه ؛ لأنّ ذلك من شأنه أن يسمو به , ويرفع من ذكره . ومن العلماء الذين ناصبوه العداء , وكادوا له بجانب السخاوي البرهان بن الكركي , والجوهري , والباني وغيرهم . معارف السيوطي ومنهجه : قد يكون لنا عقب ما قدمنا به أن نُرجع النظر إلى مصنّفات السيوطي , من حيث كمّها ونوعها , محاولين أن نقف من خلال ذلك على الأسباب التي أفرزتها بتلك المواصفات . ويمكن إجمال الحديث في هذا المجال على النحو التالي : 1. لقد رُزِقَ الإمام السيوطي التّبحر في سبعة علوم : التفسير والحديث , والفقه , والنحو , والمعاني , والبيان ,والبديع , ودون هذه السبعة أصول الفقه والجدل والتصريف , ودونها الإنشاء , والترسّل , الفرائض , ودونها القراءات , ودونها الطب .(5) وهذا يعني أن الرجل كان واسع الإطلاع , ملمّاً بعدد من العلوم , فلا عجب أن جاءت مصنّفاته كثيرة لتتناسب , وكثرة العلوم التي يتقنها . 2. إن اشتغال السيوطي بالفتيا والتدريس ردحاً من الزمن , أدى هو الآخر إلى كثرة ما أثر عنه , ويقف المطالع في مكتبه على عدد كبير من الفتاوى التي تُعدّ كتباً أو رسائل مستقلة بينما هي في حقيقة الأمر قد ضمنت كتاباً واحداً هو الحاوي للفتاوى , وإنما ذكرت فرادى ؛ لأنّها متباعدة في أزمنة صدورها , يقول في خطبة الحاوي : فقد استخرت الله تعالى في جمع نبذ من مهمّات الفتاوى التي أفتيت بها كثرتهم جدا , مقتصراً على المهم والعويص , وما في تدوينه نفع وأجدى . وجدير بالذكر أن الفتاوى الواردة تُذكر في فهارس مصنّفاته بأفرادها على أنّها كتب مستقلة , وهذا هو السبب الرئيسي في تضخم عدد المؤلفات التي تُنْسَب له . أمّا اشتغاله بالتدريس فقد حدا به إلى وضع كتب تعليمية تتناسب ومستوى تحصيل الطلاب , ونظراً لطول المدة التي اشتغل فيها بذلك فلا غرابة في أحد نجد للرجل عدداً كبيراً من الكتب المصنّفة أصلاً لهذا الغرض , وشتان بين كتاب وّضِعَ للتعليم , وآخر ابدعه صاحبه إبداعاً . يقول في خطبة كتابه " الأشباه والنظائر الفقهية " : " واعلم أنَّ الحامل لي على إبداء هذا الكتاب أني كنت كتبت في ذلك أن ذلك نموذجاً لطيفاً في كتاب ( شوارد الفوائد في الضوابط والقواعد ) فرأيته وقع موقعاً حسنا من الطلاب , وابتهج له كثير من أولي الألباب , وذلك الكتاب بالنسبة إلى هذا كقطرة من قطرات بحر , وشذرة من شذرات نهر "(6) فالرجل إذن يصنع الكتب لتلائم أهواء الطلاب . بأن ياتي على قدر عقولهم وميولهم , وفي هذا ما ينزل بمستوى ذلك النوع من المصنفات إلى ما دون المصنفات التي توضع ابتداء لرصد العلوم والمعارف . الكتاب المناسب لهذا الغرض . ومن ذلك ما ورد في خطبة كتابه " شرح الصدور بشرح أحوال الموتى في القبور " (7) حيث يقول : " هذا ما اشتد تشوق النفوس إليه من كتاب شاف في علم البرزخ , أذكر في الموت وفضله وكيفيته , وصنعة ملك الموت وأعوانه . وقل مثل ذلك في السبب الكامن وراء تأليف كتابيه " قطع المجادلة عند تغيير المعالمة(8) والأقوال الأشبه(9) وغيرهما على نحو يستطلعه المتمعن في مكتبته . 3. عكف الإمام السيوطي على تراث من سبقه , شأن غيره من معاصريه ومن تقدمهم , ابتداء من القرن الهجري السادس , عندما اقتصرت جهود المؤلفين على التصرف في مصنفات المتقدمين شرحا , ومعارضة ونظماً وإعادة إخراج وتبويب إلا في أحوال نادرة . ويقف المطالع في مكتبة الإمام السيوطي على أن الرجل , وإن بلغ مرتبة المجتهدين , لم يكن مبدعاً في جلّ ما ينسب إليه . بل كان يعيد إخراج كتب ما تقدمه بنظمها أو اختصارها وتلخيصها , أو جمع مادته منها , تماما مثلما يفعله الباحثون المعاصرون في أطروحتهم وأبحاثهم . وفي كثير من الأحيان نجد الرجل يعيد النظر في كتاب له , فيصدر منه " نشرة " جديدة معدلة , أو مزيدة , أو منقحة أو غير ذلك من وجوه التصرف . يقول في خطبة مختصرة " الوشاح "(10) . " فأول ما عملت في ذلك كتاب الإيضاح . وهو لغة مرتب على الحروف مبسوط , ثم عملت اليواقيت الثمينة ..... , ثم سودت مسودة كبرى سميتها مباسم الملاح , ومناسم الصباح , وبلغت خمسين كراسة , فاستطالت , فاختصر منها المختصر في نحو عشرها .... . وجاء في خطبة كتابه " فضل الطيلسان " (11) وبعد , فقد ألفت من نحو عشرين سنة كتابا في فضل الطيلسان ... ولخصت ذلك المجموعة في هذا المختصر " وقل مثل ذلك في كثير من كتبه كطبقات النحاة الكبرى التي تمخضت عن بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة , وكتاب الأشباه والنظائر والنحوية وغيرهما من الكتب (12) . ونستخلص مما تقدّم أن الرجل كان واسع الإطلاع , وبين يديه تراث عريض , ألوانه شتّى , وفنونه متباينة , فكان يستعين به , ويداخل بين معارفه منه , ويولد من المصنّفات ما تشهد به مكتبته الزاخرة . ويمكن عرض جهوده في هذا المجال في ما يلي : 1. التلخيص والاختصار : سواء كان ذلك لمؤلفات سبق أن ألفها بنفسه , أم كان لمؤلفات من تقدمه , ومما يعكس هذا النمط من مصنّفاته كتابه " تلخيص الأربعين في المتباين لابن حجر " (13) وتلخيص البيان في علامات مهدي آخر الزمان (14) . وهذا الكتاب هو كتاب " العرف الوردي في أخبار المهدي " ؛ لأنّ في خطبته ما يؤكد ذلك حيث يقول : " هذا جزء جمعت في الأخبار والأحاديث والآثار الواردة في المهدي , لخصت فيه الأربعين التي جمعها الحافظ أبو نعيم وزدت عليه ما فاته "(15) . 2. الانتقاء والالتقاط : ويتضح هذا المنهج في مصنّفاته التي تحمل هذه المعاني صريحةً بألفاظها كالملتقط (16) من ( الدرر الكامنة لابن حجر ) والمنتقى , هو معجم شيوخه الصغير , والمنتقى من الأدب المفرد , والمنتقى من تفسير ابن أبي حاتم , والمنتقى من تفسير الفيرياني , والمنتقى من شُعَبِ الإيمان للبيهقي (17) , وغيرها مما نصّ عليه صراحة , أو كان تلميحاً واستنباطا . 3. الجمع , وقد كان السيوطي أميناً في جمعه , ينقل من كتب السلف ويبوِّب ُ أقوالهم . جاء في مقدمة محققي المزهر :(18) " غير أن الذي تجنب الإشارة إليه ... أنَّ هذا الكتاب على ضخامته ليس للسيوطي في إلا الجمع والترتيب , عدا بدواة قليلة نجدها مبعثرة في ثنايا الكتاب ....... " . وجاء في خطبة كتابه ( غاية الإحسان في خلق الإنسان ) (19) أنّه ذكر في المؤلفات التي ظهر بها فجمع ما فيها , وزاد عليها أضعافاً من كتب شتى , وذكر فيه أنّه جمع فيه كتب خلق الإنسان للنّحاس لأبي محمد بن ثابت , وللزجاج , ولأبي القاسم بن محمد العصامي , ومحمد بن حبيب . 4. الشرح والتفسير والبسط والتخريج . وذلك بأن يتناول كتاباً لمن تقدمه , ويعلِّق عليه , أو يضع حاشية عليه , أو يسهب في بيان معانيه , كما هو الحال في شروحه التي بلغت خمسة وعشرين , وحواشيه وهما اثنتان , وتفاسيره , وأكثرها في تفسير القرآن الكريم ؛ كتفسير الجلالين , والفاتحة , والتحبير في علوم التفسير , وتخاريحه كتجريد العناية , وتخريج أبيات التلخيص , وتخريج أحاديث الدرة الفاخرة وغيرها .(20) 5. النظم : ونعني بذلك أنّه كان ينظّم بعض المتون شعراً , على نحو ما أثر من ألفية ابن مالك وغيرها من قصائد المعاني (21) في منظومته " عقود الجمان في المعاني والبيان " (22) وهي من ألف بيت لخّص فيها تلخيص المفتاح لجلال الدين القزويني , وفي أولها : قال الفقير عابد الرحمن الحمد لله على البيان وأفضل الصلاة والسلام على النبيّ أفصح الأنام وهذه أرجوزة مثل الجمان ضمنتها علم المعاني والبيان ومن ذلك أيضاً منظومته " قطف الثمر في موافقات عمر " (23) وهي مطبوعة ضمن الحاوي للفتاوى , ومنظومة " الكوكب الساطع في نظم جمع الجوامع " (24) وهو كتاب في أصول الفقه , وأصول الدين بعامة . ومنظومته في تفكير الذنوب المتقدمة والمتأخرة (25) . 6. الرد : سواء كان ذلك على الأسئلة , وهو ما يُعرف بالفتاوى أم كان رداً على موقف اتخذه عالم أو غيره منه , على نحو ما يتضح في كتابه الحاوي للفتاوى , وكتابه " الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل الاجتهاد في كل عصر فرض " (26) وكما هو الحال في ردوده على معاصريه ممن تحاملوا عليه وناصبوه العداء . وبإجمال , فإنّ مثيرا من مؤلفات الإمام السيوطي لا تعدو كونها رسائل قصيرة وكراريس صغيرة , ضمنها كل ما كان يقوله تقريباً , ومما يعكس ذلك كتابان يحملان اسم تصدير (27) ضمنها هو أو بعض طلابه ما ألقاه لما باشر التدريس بجامع شيوخه , ولما ولي تدريس الحديث بالشيخونية , ومن ذلك رسالته إلى ملك التكرور يوصيه فيها بتقوى الله والعدل بين الرعية . ويقول إقبال في هذا الصدد " وقد وجدته والذين فهرسوا مؤلفاته يحسبون في العدد أسماء المجموعات وأسماء التفاريق , ويعدّون في الحساب عنوان المدرج , وعنوان المدرج فيه " (28) مما أدى إلى تضخم فهارس كتبه , وازدياد عددها , ناهيك عمّا نُسب إلى الرجل من كتب خطأ , أو نحلاً وافتراء . تصنيف مؤلفات السيوطي وضع السيوطي – رحمه الله – كُتباً , ورسائل في موضوعات مختلفة , يمكن إجمالها في أربعة تتضمن جل مصنفاته , وتنتظم سائرها , وتلك هي : 1- المصنفات الدينية . 2- المصنفات اللغوية . 3- مصنفات ثقافية متنوعة . 4- التراجم والطبقات والأخبار . ونعتقد أن عكوف السيوطي على محتويات المكتبة العربية الإسلامية دراسةً وتدريسا , وشرحاً وتلخيصا , وتنقله في البلدان , قد مكناه من التبحر في علوم الدين واللغة وعلومها . كما أن في موقف بعض علماء عصره منه حافزاً له ليزداد علماً , ويزيد في مؤلفاته ؛ ليدعم موقفه منهم ويرجح كفته عليهم . فللسيوطي كتب تعد الأمهات في علوم القرآن الكريم والحديث الشريف , والفقه وأصول الدين , والمواعظ , والأدعية وغير ذلك مما له ارتباط الدين الحنيف , وقد بلغت جملة هذه المصنّفات استناداً إلى ما احصاه إقبال في مكتبة السيوطي 418 (29) كتاباً , كثير منها بأسماء مختلفة , أو متداخلة مع كتاب أكبر منه . كما صنّف في علوم العربية كتباً كثيرة , يقف في مقدمتها مزهره , والأشباه والنظائر النحوية , وهمع الهوامع , وهي من الكتب الأركان في المكتبة اللغوية , وقد بلغت عدة مؤلفاته في هذه المجالات مائة وعشرة كتب . أما مصنفاته التي أخذت طابعاً ثقافياً عاما , ودارت حول موضوعات مستطرفة , فقد بلغت واحداً وثمانين كتاباً , تناول فيها مسائل مختلفة حول الأطعمة , والثقافة الطبيّة والجنسية وغيرها . وللسيوطي كتب كثيرة علم الرجال وطبقاتهم وتراجمهم , ابتداء من الرسول صلى الله عليه وسلم مرارا بالصحابة , والأئمة وغيرهم من الأعلام كرجال الحديث , والمفسرين والنحاة , وقد بلغت عدة هذه الكتب 116 كتابا استناداً إلى إحصائية السيد إقبال في مكتبة الإمام السيوطي .(30) إن في هذا لعدد الضخم من المصنّفات ما يرتقي بالإمام السيوطي إلى مرتبة المؤلفين المكثرين كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي , وابن الجوزي , وابن تيمية , وابن عربي الصوفي , ولا نوافق السيد إقبال في ما ذهب إليه من تقديم السيوطي عليهم , حيث كثرة المؤلفات (31) ذلك بالنظر إلى اختلاف المحتويات , فالسيوطي ناقل في جل كتبه , بينما كان هؤلاء مبدعين إلى حدٍّ كبير . ولكن هذا لا ينخفض بمكانة الإمام السيوطي نظراً لما تعنيه كثرة مؤلفاته من تبحره , واتساع معارفه وتنوعها . ومما نعرفه للسيوطي هنا أن كتبه حفظت " طائفة من بقايا أصول ضاعت , وأشتاتاً من أمهات عدا عليها الزمان , وأخنى عليها الحدثان , ولقد كانت ميّزته بهذين العملين كبيرة , وكان فضله بهما على العلم الإسلامي عظيما " (32) وذلك شأن جل المصنفات التي ألفت بعد القرن السادس , ووصلت إلينا , إذ كثيراً ما نجد فيهما مقتطفات من كتب ضاعت , وقد عرضنا هذه المعلومة في مقدمة التحقيق لكتاب اتفاق المباني لسليمان بن بنين المتوفى سنة 614 ه . ونعتقد أن السيوطي لم يكن حرجاً في التصرف بكتب من تقدمه , بالرغم من أن معاصريه قد عابوا عليه ذلك كالسخاوي الذي اتهمه بأنه " أخذ من كتب المحمودية وغيرها كثيراً من التصانيف التي لا عهد لكثير من العصريين بها فغيّر فيهما يسيرا وقدّم وأخر , وهول في مقدماتها بما يتوهم منه الجاهل شيئا " (33) وقد وهب للدفاع عن السيوطي عدد من العلماء قديماً وحديثا (34) , ولكن لنا في توجيه ذلك قولين هما : نوعية كتب السيوطي من حيث الحجم والمنهج المتّبع في التصنيف , حيث أن جلّها شروح ومختصرات ورسائل ومنظومات وتراجم . والثاني هو ما سبق أن قدّمناه به , من أن الرجل لم يكن يجد حرجا في الأخذ من كتب السلف لا سطوا ولا انتحالا , ولكن نقلاً موثوقاً بدقة , فمن طرق الأخذ والتحمل التي استعرضنا السيوطي في مزهره (35) الوجادة , وهي الأخذ من الكتب الموجودة على نحو ما أورده من قول أبي علي القالي في أماليه : " قال أبو بكر بن أبي الأزهر : وجدت في كتاب أبي حدّثنا الزبير بن عباد , ولا أدري من هو , قال : حدّثنا عبدا لملك ... " ونحو ذلك كثير , وهو الكثير الأشيع من طرق الأخذ والتحمل . وجدير بالذكر أن السيوطي كان يوثق ما ينقله ؛ فيذكر اسم الرجل واسم كتابه , وربما ذكر اليوم والتاريخ , ومن تصفّح المزهر على وجه الخصوص , وقف على حقيقة ما تقدم . ولا يكتفي السيوطي بالنقل , ولكنه يضيف ويناقش ويعارض . ومن ذلك ما نجده في ثنايا كتبه , فبع أن يورد أسماء العسل التي أوردها الفيروز أبادي في كتابه " ترقيق الأسل في تصفيف العسل " وعدتها واحد وثمانون اسما .... يزيد السيوطي قائلاً : " قلت : ما استوفى أحد مثل هذا الاستيفاء , ومع ذلك فقد فاته بعض الألفاظ , أنشد القالي في أماليه ( للراعي النميري ) : ولذا كطعم الصرخدي تركته وقال : الصرخدي : العسل ... وفي أمالي الزجاج من أسامي العسل : السعابيب(36) لكأنا أمام لجنة تناقش أطروحة !! خاتمة البحث : يمكن إجمال النتائج التي يقود إليها هذا البحث في عدة نقاط هي : 1. إنَّ بعض مؤلفات السيوطي تبلور توجهاً عاما في التصنيف بدأ يتكون قبل القرن التاسع , وظلّ يتطور حتى اكتمل في مصنّفات السيوطي , واستمر إلى يومنا الحاضر في الشرق والغرب , وهو ذلك المنهج المركّب الذي تعتمده المعاهد العلمية , ومراكز البحث والدراسات , ويقوم على أساس من : أ‌. التتلمذ على العلماء , والتدرج في معاهد الدرس . ب‌. الاطلاع على ما في المكتبة من مؤلفات في الموضوع الذي يراد البحث فيه . ج. التركيب أو التحليل , وإخراج كتب جديدة . وذلكم ما فعله السيوطي , وما تعكسه حياته العلمية في تدريجها , من تلق إلى اطلاع فبحث وتأليف . 2. إن المطالع في مصنفات السيوطي يقف على أساليب , وطرق في البحث نطبّقها اليوم ونحسبها من إبداعات هذا العصر , ومن ذلك ما نقف عليه في رسالة " الطرثوث " إذ تحدث عنها حاجي خليفة في كشف الظنون قائلاً : " ألَّف ابن حجر جزءا اسماه البسط المبثوث ... وهذا جزء يحتوي عليه وزيادة , فيه مقدمة ومقصد وخاتمة "(37) . ذلك أن هذا التفصيل ( مقدمة ومقصد وخاتمة ) وإنما هو من شروط الأبحاث والمصنفات الحديثة , وهو مما ينص عليه التربويون حديثاً . 3. إن المطالعة في كتب السلف يجب أن تجري في اتجاهين : - اتجاه ينحصر في اكتساب المعرفة . - واتجاه يخصص للنظر في مناهجها , وما بين سطورها مما لا يكون القصد إليه مباشرا . 4. من مؤلفات السيوطي ما ترجم إلى الإنجليزية , ككتاب " كشف الصلصة عن وصف الزلزلة " , ترجمة سبرانكر سنة 1943م , ثم أعاد ترجمته إلى الإنجليزية السيد أمبراسي سنة 1961م , معتمداً على مخطوطة المتحف البريطاني (38) وأنّ من كتبه ما وجد عليه تعليقات باللاتينية , وهذا يعكس مدى اهتمام الأجانب به , مما يحدو بنا إلى مضاعفة الاهتمام بأعلام الأمة وعلمائها , وتكريمهم , والانتفاع بعلومهم . 5. مواصلة البحث عن كنوز التراث العربي الإسلامي دون كلل أو ملل ؛ لأن ثمة مخطوطات كثيرة للسيوطي وغيره , ما تزال مجهولة لم يهتد إليها مصنّف ولا مفهرس ولا محقق , على نحو ما تبين من أمر مخطوطة مكتبة الزاوية الإسلامية . التي وقفت عليها عام 1973م وهي مما لم يذكر في مصنّفاته . 6. كان السيوطي أديباً , ويعرف أن الأدب هو الأخذ من كل فن بطرف , ومن هنا تعددت معارفه , وتلونت مصنّفاته , وتباينت موضوعاته , أليس في ذلك ما يدعونا إلى إعادة النظر في التخصص ؟ 7. لا يُعاب السيوطي في النقل , بل لقد حفظ فأوعى , وعرف لكل صاحب حق حقه , بأن نسب كل منقول لصاحبه , عملا منه بمقتضيات الأمانة , وهو المحدث والمفسّر , انسجاماً مع طبيعة الوجادة من طرق الأخذ والتحمل . اقتراحات : نظرا لما تمتاز به شخصية الإمام السيوطي العلمية , فإني اقترح أن تخصص جائزة سنوية تحمل اسم " جائزة الإمام السيوطي " لأجود بحث في مجال اللغة , ومجال الدراسات الإسلامية , تكون بالتناوب بين ذينك المجالين . المصادر والمراجع : 1. إقبال , أحمد الشرقاوي , مكتبة الجلال السيوطي . دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر . الرباط 1397 ه . 2. السيوطي : - المزهر في علوم العربية وأنواعها , شرحه وضبطه وصححه محمد أحمد جاد المولى وزميلاه . دار إحياء الكتب العربية مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه . - حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة , تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم . دار أحياء الكتب العربية . القاهرة ط1 سنة 1987م . - نظم العقبان في أعيان الأعيان . تحقيق فيليب حتّي . المطبعة السورية الأمريكية – نيويورك 1927م - الأشباه والنظائر الفقهية , طبعة مصر عام 1359 ه . - شرح الصدور بشرح أحوال الموتى في القبور , المطبعة المنيرية – القاهرة سنة 1309 ه - الحاوي للفتاوى , المطبعة المنيرية , القاهرة سنة 1353 ه . - عقود الجمان في المعاني والبيان , مطبعة التقدم العلمية . مصر سنة 1321 ه . 3. فريد فتحي عبد القادر التحبير في علم التفسير للسيوطي – دار المنار للنشر والتوزيع . القاهرة 1406 ه . 4. السخاوي , شمس الدين محمد . الضوء اللامع لأهل القرن التاسع , منشورات المكتبة الثقافية . بيروت 1973م الدوريات 1. مجمع اللغة العربية الأردني . م37 . كتاب الرماح 2. الجامعة الأردنية . المجلة الثقافية . ع2 , سنة 1984م . تعريف بمخطوطات الزاوية الإسلامية بغات .