الاستدلال بقص الأثر

yahyaj's picture
Published at: 
مجلة المأثورات الشعبية، العدد الثامن عشر، إبريل 1990قطر
Year: 
2009

كان الاستدلال بالقرائن ـ ولا يزال ـ أخطر المناهج التي اهتدى إليها الإنسان في تحقيق المعرفة، والتثبت من صحة النتائج التي يتوصل إليها. ويحفل التاريخ العربي بكثير من الشواهد الأدلة التي تؤكد التجربة الثرية للإنسان العربي في مجال الاستدلال، وتكشف عن فطنته وذكائه في استخلاص النتائج، واستنباط الحقائق، باستقراء المعطيات المتاحة، من صوت يُسمع أو حركة تُدرك أو أثر يُرى، ونحو ذلك مما يحيط به الحسّ.

          وسنعرض في هذه الدراسة، لما ورد من أخبارهم في مجال قص الأثر، هذه المهنة القديمة الجديدة، وذلك الفن الذي أصبح اليوم موضوعا يتخصص فيه الباحثون، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن مجاله قد اتسع، ووسائله قد تنوعت. وسنجري بالدراسة حول بعض المفردات المعجمية المستخدمة في هذا الموضوع، إلى جانب ما أُثر قديما وحديثا، من وقائع تعكس تطور المعارف العربية، وتقدمها على معارف الشعوب الأخرى.

 

القصّ:

          القص لغة القطع يقال: قصصت ما بينهما، أي قطعته(1). وقص الأثر تتبعه قطعة قطعة، ولا يكون قص الأثر إلا في المجاهيل والطرق، ومن هذا المعنى تولد معنى قريب، هو قص الخبر والحكاية والقصة، لأن القاصّ يتتبع مجرياتها بكلماته، ويأتي بها متوالية على نسق، تماما كما يفعل قاصّ الأثر؛ حيث يتعقب الآثار من مواطئ الأقدام أو الأخفاف، إلى الدم السائل ونحو ذلك واحدا واحدا، حتى ينتهي إلى ضالته أو بغيته التي كان ينشد. والنار تقص التبن، إذا تتبعته وتلاحقت فيه.

          قال تعالى في خبر موسى ـ عليه السلام ـ "وقالت لأخته قصيه، فبصُرت به عن جُنُب وهم لا يشعرون" (2) والمعنى تتبعي أثره شيئا بعد شيء. وقال عز وجل في سورة الكهف (3) "قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا" أي يتتبعان آثارهما.

          ويقال منه: تقص الأثر والخبر إذا تتبعهما، وكذلك اقتصهما، وقص آثارهم يقصها قصا إذا تتبعها، ليلا كان ذلك ام نهارا.

والقصيصة هي الناقة أو الدابة التي يتتبع بها الأثر.

          ومن الطريق أن العرب تهتدي إلى الأماكن التي تنمو فيها الكمأة والفقع بشجرة تسمى القصيصة، فكأنهم يقصون الكمأة اهتداء بهذه الشجرة (الأثر) ومن ذلك في أمثالهم "هو أعلم بمنابت القصيص" أي الكمأة يُستدلّ عليها بذلك الشجر (4).

وقال عدي بن زيد العبادي (5):

تجني لك الكمأة رِبْعِيّةٌ                بالخَبِّ تندى في أصول القصيص
أي تنبتها لك أمطار تنزل في الربيع على ذلك المكان، ويكون نباتها في أصول هذه الشجيرة "القصيص".

          وجاء في اللسان (قصص) عن أبي حنيفة قال: وزعم بعض الناس أنه إنما سمي قصيصاً لدلالته على الكمأة، كما يقص الأثر. وقال: لم أسمعه، يريد أنه لم يسمعه من ثقة. قلت: ولو لم يكن ذلك، فإن واقع ما كان يؤكد ذلك الاستدلال ويقطع به.

 

القفر:

          ويقال: قفر الأثر يقفره قفرا، واقتفره اقتفارا إذا تتبعه وقصه (6). قلت: واشتقاقه لهذه الدلالة من القفر بمعنى الأرض الخالية، فكأن الأصل ان يقال: اقفرْ أثره! أي تتبعه في الأرض القفر.

 

القفو:

          ويقال أيضا: قفا الأثر يقفوه قفوا وقُفُوّا، واقتفاه وتقفاه إذا تتبعه. قال تعالى "ثم قفّينا على آثارهم برسلنا"(7) أي اتبعناهم.

          قلت: والاشتقاق لهذا المعنى مأخوذ أصلا من القفا بمعنى مؤخر العنق، لأن متتبع الأثر يتعقبه (من عقب القدم، ومنهما عقب الرجل خلفه وأولاده الذين يتركهم خلفه إذا مات). ويأتي من بعد مُحْدِثِه وخَلْفَه. وقفاه أي من قبل مؤخر عنقه.

وقال أبو عبيد (8):

          هو يقفو الأثر ويقوفه ويقتافه، واحد، والمعنى يتتبعه. وأعتقد أن هذا من باب القلب حيث تقول العرب: جذب وجبذ، وعقرب وعرقب، وقفا وقاف، وعثى وعاث وغير ذلك. ومن قاف يقوف جاء الاصطلاح القديم: القيافة، ومنه قافية بيت الشعر، لأنها تأتي في قفاه .. مؤخره.

 

الأثر:

          الأثر لغة هو ما بقي من رسم الشيء. وهو العلامة التي يتركها قدم الإنسان أو خف البعير ونحوهما، وغير ذلك من العلامات التي يتركها المحدث في مكان ما، وتقوم دليلا على وجوده فيه، أو مروره منه، وقيامه بعمل ما. وفي الدعاء: قطع الله أثره، إذا أماته أو رماه بمرض مزمن، يحول دون قيامه ومشيه، قلا يترك أثرا على الأرض.

 

القيافة اثنتان:

          وقد فرق العرب بين نوعين من القيافة؛ قيافة البشر، وقيافة الأثر، فأما قيافة البشر فهي أن يستدل القائف بصفات أعضاء الإنسان وملامحه، وهي لهذه الدلالة قريبة من الفراسة، وكانت في قوم من العرب، يقال لهم بنو مدلج، وقد يعرض على أحدهم مولود في بضعة رجال، فيُلحقه بأحدهم ولا يخطئ.

          ويحدثنا الأبشيهي (10) عن قيافة الأثر، وهي الاستدلال بالآثار التي تخلفها الأقدام والحوافر والأخفاف ونحوها. وقد اختص بها قوم من العرب، أرضهم ذات رمل، إذا هرب منهم هارب، أو دخل عليهم سارق، تتبعوا آثار قدمه فظفروا به، ومن العجب أنهم يعرفون قدم الشيخ من الشاب، والمرأة من الرجل، والبكر من الثيب، والغريب من المستوطن.

          ومن طريف ما نقله صاحب المستطرف (11)، أن رجلين من القافة اختلفا في أمر بعير (12) وهما بين مكة ومنى، فقال أحدهما هو جمل، وقال الآخر هي ناقة، وقصدا يتتبعان الأثر، حتى دخلا شعب بني عامر، فإذا بعير واقف، فقال أحدهما لصاحبه: أهو ذا؟ قال: نعم، فوجداه خنثى، فأصابا جميعا.

          ومن قبيل ذلك في قيافة البشر، ما أثر عن الشافعي، ومحمد بن الحسن ـ رضي الله عنهما ـ أنهما رأيا رجلا فقال احدهما إنه نجار، وقال الآخر غنه حداد، فسألاه عن صنعته، فقال: كنت حدادا وأنا الآن نجار (13).

          وجاء في ترجمة الجفار (14) وهي أرض في شمالي شبه جزيرة سيناء بين رفح والعريش، أن أهلها لا يحتاجون لكثرة أجنتهم (بساتينهم) إلى الحراس، لأنه لا يقدر أحد منهم أن يعدو على أحد؛ لأن الرجل إذا أنكر شيئا من حال جنانه (بساتينه)، نظر إلى الوطء في الرمل (الأثر) ثم قفا ذلك (تتبعه) إلى مسيره يوم ويومين حتى يلحق من سرقه، وذكر بعضهم أنهم يعرفون أثر وطء الشاب من الشيخ، والأبيض من الأسود، والمرأة من الرجل، والعاتق من الثيب، قال ياقوت معقّبا متعجبا: فإن كان هذا حقاً، فهو من أعجب العجائب.

          وذكر المسعودي في مروجه (15) أن أهل المياه أكهن، وأهل البر الفائح أقوف، أي أن هؤلاء أهل قيافة، وأولئك أهل كهانة. ثم قال: وبأرض الجفار أناس من العرب، يتناول الإنسان من تمر نخيلهم، فيغيب عنه السنين ولم يروه، ولا شاهدوه، فإن رأوه بعد مدة، علموا أنه الآخذ تمرهم، ولا يكادون يخطئون، وهذا من فعلهم مشهور. ورأيت بهذه الأرض أناسا قد رتبهم ولاة المنازل يطوفون في هذا الرمل، يعرفون بالقصّاص ـ جمع قَصّاص ـ يقصون آثار الناس وغيرهم، فيخبون ولاة المنازل أيّ الناس هم، ممن طرق تلك البلاد، وهم لم يروهم، بل رأوا آثار أقدامهم، وهذا معنى لطيف وحسّ دقيق،

 

خبر من الجاهلية:

          وتذكرنا هذه الرواية بما أثر من أخبار الجاهلية، أن أحدهم خرج ينشد بعيرا له ضلّ، فمرّ بثلاثة إخوة كانوا في طريقهم إلى أحد الحكماء يستفتونه في بعض أمرهم. فسألهم الناشد عن بعيره، فقال أحدهم: اهو أعور؟

فقال الناشد: نعم.

وقال الثاني: أهو أظلع؟

فقال الناشد: أجل، أين رأيتموه؟

فقال الثالث: أهو أبتر (أي مقطوع الذيل)؟

فجن الناشد فرحا ـ يحسب القوم سيدلونه عليه ـ ولكنه أُسقِط في يده عندما علم أنهم استدلوا بآثاره على أوصافه؛ فهو أعور، استنادا على ما أدركه الأول من أنه يرعى العشب من ناحية الطريق دون الناحية الأخرى. وأظلع لأن الثاني لاحظ أن البعير يسحب إحدى رجليه على الأرض استنادا على ما يوضحه أثره. كما لاحظ الثالث أن بعره ليس متناثرا، كما هي عادة أبعار الإبل، حيث تفرقها بأذنابها أثناء تساقطها، فأدرك بذلك انه أبتر، مقطوع الذيل، وتلك قصة تطول.

 

 

في العصر الحديث:

          وفي العصر الحديث، لا نزال نجد في بلاد العرب المختلفة، أناسا اشتهروا في مجتمعاتهم بخبرتهم في قصّ الأثر، فإذا بحكومات بلادهم تستعين بهم في مطاردة الخارجين على القانون، وتعين بعضهم في وظائف استُحدثت خصيصا لهذا الغرض، غالبا ما تكون ملحقة بأجهزة الأمن والشرطة. ومن هذا القبيل ما استطار من شهرة بني مرة، الذين ينتشرون في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، في خَرَضَ وما حوله، والجافورة ويبرين والخُنّ والسك ونباك وغيرها، فهم معروفون في أرجاء بلاد العرب بتفوقهم في مجال القيافة، حتى لقد أصبحت كلمة مرّيّ تعني قصاص الأثر عند بعض العرب جنوبي المملكة العربية السعودية. وها وجه مشهور من أوجه الانتقال الدلالي تعرفه العربية.

          وأذكر في هذا المجال صديقي الشيخ محمد بن فهيد المري، الذي كان موظفا في شرطة خيبر، سنة 1390هـ وكانت مهمته قص الأثر، والكشف عن المطلوبين بتعقب آثارهم.

 

في بلاد العرب:

          وإذا تجولنا في الوطن العربي، نلتمس أخبار القافة والقصاص، لوجدنا منها كثيرا وطريفا، في مروى شمالي السودان، نُهبت مخازن الجيش البريطاني في أوائل هذا القرن، واجتهد القوم في التحري والبحث، لكن دون فائدة تُذكر، ولم يهتدوا إلى الفَعَلة، إلا بعد الاستهانة برجل من أهل مروى، كان معروفا بمهارته في قص الأثر.

          وفي مدينة زويلة في أقصى الجنوب الليبي، كان القوم إلى عهد قريب، يطوفون حول البلدة وهم يسحبون وراءهم الجريد، يسوون وجه الأرض ويطمسون كل أثر، فإذا أصبحوا طافوا حولها، فإذا رأوا أثرا يستنكرونه، فإنهم يتعقبونه حتى يلقوا القبض عليه.

 

الأثر والخبر:

          وللأثر معنيان آخران من جنس المعنى السابق؛ وهما خبر من تقدم حيث نقول جاء في الأثر إنه كان كذا وكذا، وهل هذا إلا بقية ممن كانوا قبلنا؟

          ودائرة الآثار، أو مصلحة الآثار في هذا البلد أو ذاك، هي تلك الجهة الرسمية التي تُعنَى بالمحافظة على الإرث القديم من مخلفات الأسلاف، معمارا كان أو آلة أو غير ذلك.

          ويستدل بهذين الأثرين على مثل ما يستدل عليه بأثر القدم والخف والرعي والدم ونحوها، فنستدل بخبر من تقدم على ما كانوا عليه في أحوالهم، وعلى مستواهم من العلم والمعرفة، فنأخذ عنهم ونعتبر بتجاربهم ونستدل بعاديّاتهم ـ جمع عاديّ وعاديّة، بمعنى قديم، نسبة إلى عاد على مساكنهم ـ وطرق تجارتهم، وعلى جوانب شتى من التاريخ الحضاري. قال المتنبي يصف حال المعتبر بآثار من تقدم (16):

تصفو الحياة لجاهل أو غافل                        عما مضى فيها وما يُتوَقّع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه                           ويسومها طلب المحال فيقنع
أين الذي الهَرَمان من بنيانه                      ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلّف الآثار عن أربابها                        حينا ويدركها الفناء فتتبع
وكان
لبيد بن ربيعة أول من ذكر هذا المعنى في شعره، وذلك حين قال (17):

فعفّا آخر الزمان عليهم                         فعلى آخر الزمان الدمار
وكذلك الزمان يذهب بالنا                       سِ وتبقى الرسوم والآثار
ولم يرد هذان البيتان في ديوان ربيعة، وفيه 18 قصيدة تحتمل أن يكونا منها مطلعها:

إنما يحفظ التقى الأبرار                           وإلى الله يستقرّ القرار
          وكان قد قالها في الإسلام، حين ارتحلت بنو جعفر، فنزلت بلاد بني الحارث بن كعب. وجدير بالذكر أن
الأحوص كرر البيت الثاني منهما في شعره وبتمام حرفه (19).

 

الكشف عن التاريخ:

          ويعد الاستدلال بالآثار، ولا سيما في عصرنا الحديث، أهم وسائل الكشف عن التاريخ القديم، ولا يضاهيه في ذلك إلا المخطوطات والمدوّنات، ما لم نعدّها جزءا من الآثار. وقد حدّثنا الإسلام عن السير في الأرض لننظر كيف كانت عواقب الذين كانوا من قبلنا، لنتدبر ونعتبر، قال تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" (20)، وقد تكرر هذا المعنى بالواو مكان الفاء (أولم) في أكثر من سورة (21)، الأمر الذي يدل على ضرورة الاعتبار بكل ما تقع عليه العين.

          وقد يذكّر هنا بسينية البحتري التي قالها في إيوان كسرى، ومعارضة أحمد شوقي التي قالها في قصر الحمراء بالأندلس، فهاجته الذكرى، وراح يبكي أمجاد الإسلام، ويسترجع أحداث القرون الخوالي، مستحثّا بذلك عزائم المسلمين، وداعيا إلى معاودة المسيرة، واستعادة سالف المجاد.

 

الاستدلال بالشم:

          ومن الاستدلال بالأثر، أن من العرب من كان يشم الطريق، فيهتدي بذلك إلى موقعه ووجهته. ومن قبائل الطوارق في الصحراء الكبرى، من لا يزال يحسن الاستدلال إلى يومنا هذا. قال رؤبة بن العجاج:

إذا الدليل استاف أخلافَ الطُّرقْ (22)

          أي شمها ليعرف أين هو، وأين يتجه ... وأعتقد ان الدلالة في ذلك، لم تكن مباشرة على المكان أو الاتجاه، وإنما لمعرفة ما إذا كانت تلك البقعة قد ديست أو وُطئت، او تحمل أثرا للإنسان أو بعض حيواناته المدجّنة أم لا، ذلك ان كثيرا من الطرق تندثر، لسبب أو لآخر، على نحو ما قال بشير بن النكث:

عَوْدٌ على عُوْد لأقوام أُوَل                           يموت بالترك ويحيا بالعمل (23)
          يصف جملا مسنّا على طريق قديم، وهذا الطريق يندثر إذا هجر، ويظل واضحا إذا استمر السير فيه. وربما أراد البعير، وأنه قد اعتاد العمل، فإن توقف مات! ويؤكد المعنى قول
سوار بن المضرب في طريق أنها:

تموت بنات نَيْسَبِها ويُغْبَى                  على ركبانها شَرَكُ المِتَانِ (24)
          أي أن فروعها تموت ولا تعود ترى، حتى إن سواءها ليغبى على الركبان فيوشك لا يرى.

          وجدير بالذكر ان المسافة ـ بمعنى البعد الشاسع بين مكانين ـ قد اشتقت من السَّوف بمعنى الشمّ، ذلك انهم لم يكونوا يحتاجون إلى فعل ذلك إلا في "المسافات" الطويلة ومجاهيل الأرض، وهذه قلايلا ما تُسلك، ولا بد لسالكها ـ من إنسان او دابة ـ من ترك أثر، مهما كان ضئيلا، كبُراية عود أو حُتَاتة نعل أو خف أو حافر، أو غير ذلك. ونعتقد أنهم لم يسموا الطريق لاحبا، إلا لذلك؛ لأنه يلحب الحوافر ونحوها، أي يقشرها، أوعلى العكس؛ لأنها هي التي تقشره.

 

 

خبرة واسعة:

          وقد اكتسبوا هذه الخبرة بطول الممارسة، وبما تراكم عندهم من المعطيات المقاييس، فأثر الشيخ المسنّ غير أثر الشابّ، فغالبا ما يكون مع الشيخ عصاً يتكئ عليها، أو أنه يوقع على الأرض لثقله، على العكس من الشاب؛ الذي يخف خطوه لنشاطه، والأظلع (الأعرج) لا بد أن يترك أثرا يدل عليه، وذلك بأن يكون أثر جانب من قدمه أوضح من جانب.

          وربما حكموا على انفراج أصابع القدم، أو انسحاب مقدم القدم على الأرض بعد توقيعه، واستدلوا بالفحص ـ وهو ألا يكون توقيع القدم على قدرها، بل يكون أوسع، لأن السائر لا يرفعها مرة واحدة، وذلك بأن يفرك الأرض يمينا أو شمالا ـ وذلك أثر الهارب. ومما نحفظه قول عمرو بن معديكرب الزبيدي وقد غلبهم القوم ففرت نساؤهم:

لما رأيت نساءنا يفحصن في المعزاء
وبدت لميس كأنها بدر السماء إذا تبدّى
وبدت محاسنها التي تخفى وكان الأمر جدّا
نازلت كبشهم ولم أرَ من نزال الكبش بدا (25)
          والمعنى هاربات يجرين، فهنّ يفركن الأرض بأقدامهنّ. ومنه تولد معنى
الأفُحْوصُ الأفْحُوصُ، وهو عشّ القطاة على الأرض.

          وقد ذهبت بهن بهم الفطنة إلى الاستدلال بالبعرة على البعير! وبما تتكون منه من علف، على المكان الذي أتت منه، كما استدل المشركون على قوات المسلمين، بفرك بعرة، فأدركوا من مكوناتها أنها من أعلاف يثرب.

 

الاستدلال على الماء:

          ومن ذكائهم الخارق للعادة في مجال الاستدلال إلى الأماكن التي يوجد فيها الماء تحت الأرض، ولهم في ذلك علامات وأمارات، وقد حفظ لنا المعجم العربي كلمة قُنَاقِن أو قُنقُن، بمعنى البصير بالماء تحت الأرض وطرق استخراجه ـ المحكم لابن سيده: قنقن ـ وقد رأيتهم في أكثر من بلد في جنوبي المملكة العربية السعودية، يستعينون بمثل هذا المهندس عند العزم على حفر الآبار(2).

 

 

 

التعليم على طبائع الأزمنة:

          ومنه أيضا تعليمهم على حدود الزمان وطبائعه بكثير من القرانات والأمارات، مما نؤثر أن نخصص له بحثا آخر مستقلا. وقد نذكر من ذلك على سبيل المثال، أنهم في السراة، وهي سلسلة الجبال المحاذية لتهامة، التي تمتد من مكة المكرمة، إلى قرب من عدن، يعلّمون على ابتداء فصل الصيف وشيوع الدفء، بخروج اليمامة والهدهد من تهامة.

          وربما علموا على ذلك بفلسطين، بظهور نوع من الحشرات يدعى دودة الصيف، وهي ـ فيما نرى ـ بعض الأخبية، وهو أحد السعود الستة المعروفة. وسمي به لأن أخبية الأرض تطلع فيه، وهي الزواحف والحشرات التي تبيت طوال الشتاء.

 

رجال:

          وقد نذكّر هنا بما اشتهر من أمر بعض الرجال في غربي المملكة العربية السعودية وجنوبيّها، الذين رافقوا البعثات الكشفية والرحالة الغربيين، أثناء قيامهم بدراسات ميدانية في مناطق الجنوب، وتحديدا منطقة الأحقاف وبئر هوت (هود) كالدليل سلامة الحويفي الحربي، أحد الأخوياء بإمارة الموفجة بنجران سنة 1385هـ، والخبير في شق الطرق عبر جبال الجنوب بداح القرقاج القحطاني، وغيرهما.

 

خاتمة:

          وبعد، فقد يصح لنا بعد الذي قدمنا أن نقول: إن العرب امتازوا من غيرهم من شعوب الأرض، بقدرتهم الفائقة في الاستدلال وقص الأثر، وقد تولد ذلك من ضرورة ظلت تلازم حياتهم منذ فجر التاريخ؛ وهي أن بلادهم واسعة، تتناصى فيها البراري الموحشة والقفار الخالية، وتقسو أحوالها، وتشتد حتى لا يكون لحدهم مفر من فتق الذهن وشحذه، ليتمكن من اصطناع ما يبلغه ولو عيش الكفاف، وربّ ضارة نافعة.

          تلك أمور كانت، ولكن لا تزال لها بقية، وحريّ بنا أن نجتهد في تنسيق معارفهم في هذا المجال، وأن نعد فيها الأبحاث والدراسات، لنخرج منها بعلم نظري وتطبيقي، له أصوله وقواعده.

          لقد كان استقراؤهم تمهيدا لمعارف توصلوا إليها، أفلا نسقرئها لتبني عليها علما؟ وهل كانت العلوم والنظريات إلا وليدة المعارف المتراكمة، واستنباطا من معطيات، قد تكون بسيطة إلى حد بعيد؟ أليس في البعرة دلالة على البعير؟

          وما أجمل ما استدل به أحدهم على وجود الخالق سبحانه، حيث قال: أسماء بهذه اللطافة، وأرض بهذه الكثافة ولا يكون إله؟ يا له من قول ما أبسطه وأقربه، ولكن من العمق بحيث تحار فيه العقول !!

 

المراجع:

1.    اللسان (قصص).

2.    سورة القصص: 11.

3.    الآية 64.

4.    الميادني ـ مجمع المثال 2/61.

5.    اللسان (خبب).

6.    الصحاح (قفر).

7.    سورة الحديد: 27.

8.    اللسان (قفا).

9.    المرجع نفسه (أثر).

10.                      المستطرف في كل فن مستظرف ص:327.

11.                      السابق نفسه ص:328.

12.                      في الأصل "أمر" والصواب ما أثبتناه.

13.                      المستطرف ص:331.

14.                      معجم البلدان (ياقوت الحمويّ) في ترجمة الجفار 2/45/146.

15.                      مروج الذهب للمسعودي 2/182.

16.                      ديوانه 2/268، من قصيدة يرثي بها أبا شجاع فاتكاً الأسدي.

17.                      المنازل والديار لأسامة بن منقذ 1/334.

18.                      الأغاني لأبي الفرج 9/142، 133.

19.                      سورة يوسف ـ 109.

20.                      سورة الروم 9 والحج 46 وفاطر 44 وغافر 21،82، ومحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ 10.

21.                      اللسان (سوف).

22.                      المصدر نفسه (عود).

23.                      الأمالي لأبي علي القالي 1/281.

24.                      شرح الحماسة للمرزوقي 1/177.

25.                      كان ذلك في ثمانينيات القرن الهجري الرابع عشر.