الأعلام الجغرافية في الشعر الجاهلي

yahyaj's picture
Published at: 
مجلة مجمع اللغة العربية ـ القاهرة 1995
Year: 
2009

أ.د. يحيى جبر عضو المجمع

من عادة الشعوب أن تعلّم معارفها من الناس والأماكن بأعلام تخصها بها، وتعبر بها عنها، وفي الأماكن وما يلتحق بها كثير لا يُعرف باسم، وإنما هي مجاهيل لم يدخلها الإنسان في دائرة معارفه، ومن الناس لا نعرفهم بأسمائهم لأننا لا نخالطهم، وليس بنا حاجة لمعرفة ذلك منهم.

         ونتناول في هذا البحث العلام الجغرافية التي شاعت في أشعار الجاهلية شيوعا تفرّد به شعر ذلك العصر، حتى غدا واحدة من أهم مميزاته، وقد تصدى بعض الباحثين لهذا الموضوع بشكل غير مباشر، إذ تناولوه في معرض حديثهم عن المقدمة عن المقدمة الطللية للقصيدة الجاهلية، وسبق البكريّ وياقوت إلى الإفادة من أشعار الجاهلية وغيرها في مادة كتابيهما، معجم ما استعجم ومعجم البلدان، كما سبق الزمخشري إلى أسماء الجبال، وعرام السلمي إلى أسماء الأماكن والموارد في تهامة، وسبق الأصمعي وغيره إلى الدارات، والهمذاني في صفة جزيرة العرب، إلى ذكر كثير من المواضع، وابن منقذ إلى المنازل والديار، وقل مثل ذلك في الكتب التي خصصها مؤلفوها لذكر المسالك والممالك، وطرق الحج، والخراج، والأيام، إذ اتخذوا من أشعار العرب شواهد على كثير مما ذكروه من أعلام الأماكن والمسالك.

         وكان العرب قديما، وكثير منهم لا يزالون، يرون في معرفة البلدان والطرق فضلا وزينة، فكان مثلهم: "قتلت أرضٌ جاهلَها"، ومثلهم الذائع في المشارق "معرفة البلاد أمارة، ومعرفة الرجال تجارة، ومعرفة النساء خسارة"، ونظيره المستطير في المغارب، لاسيما عرب الصحراء الكبرى "عرّاف البلاد يفوز، وعِرْف الرجال كنوز، وعرْف النسا خنوز".

         ولما كانت بلاد العرب واسعة مترامية، تتدنى فيها الكثافة السكانية، وتكثر فيها الصحاري والجبال المقفرة، على نحو ما يشيع في آثارهم، من مثل قول أحدهم:

بلدة ليس بها أنيس                          إلا اليعافر وإلا العيس
وقول المتنبي:

بسيطة مهلا سقيت القطارا                         تركت عيون عبيدي حيارى
فظنوا النعام عليك النخيل                      وظنوا الصُّوار عليك المنارا
أو كقول لبيد بن ربيعة:

إني اهتديت وكنت غير رجيلة                      والقومك قد قطعوا متن السجسج
         لما كان الأمر كذلك، فقد وجدوا أنفسهم مضطرين للتعليم على الطرق بتسمية بعض المواضع التي تمر بها من جبل أو وادٍ أو حزم أو فلاة أو نحو ذلك، واضطروا في بعض المواقع إلى وضع المنارات والصوى والأعلام، لهداية الركبان، لا سيما على الطرق الطويلة، التي يقل سالكها، على نحو ما نجده في قول امرئ القيس:

على لاحب لا يهتدي بمناره                         إذا سافه العود النباطي جرجرا
أي صوت لما علمه من طول الطريق وبعد الشقة.

         وربما ارتحل عن منزله إلى مكان آخر قريب أو بعيد، فأسمى الجديد باسم القديم؛ حباً فيه، وتعلقاً به، والمطالع في الأطلس العربيّ، يقف على أسماء كثير من البلدان، جاءت متطابقة تماما للسبب المذكور آنفا.

ويبدو أن معرفة الأماكن كانت على ضربين، هما:

أولا: معرفة المكطان ممثلة في معرفة موقعه واسمه.

وثانيا: معرفة صاحب الموقع، ومن كان يقيم فيه، على نحو ما نجده في قول الشماخ بن ضرار الغطفاني:

أتعرف رسما دارسا قد تغيرا                              بذروة أقوى بعد ليلى وأقفرا
فهو رسم دار ليلى، في الموضع المعروف بذروة.

وقول عدي بن زيد العبادي:

أتعرف رسم الدار من أمّ معبد؟                           نعم، فرماك الشوق قبل التجلد
وقول زهير:

أمن آل ليلى عرفت الطلولا                              بذي حرض ماثلات مثولا
وقول حاتم:

أتعرف أطلالا ونؤيا مهدّما                           كخطك في رق كتابا معجما
وقول أبي ذؤيب:

عرفت الديار كرقم الدواة                             يزبرها الكاتب الحميريّ
وقول لبيد:

فكأن معروف الديار بقادم                      فبراق قوم فالرجام وشوم

*********************

         وتغصّ مقدمة القصيدة الجاهلية، بفيض من أعلام المنازل والديار، كما أن متن القصيدة لا يخلو من ذكر الأماكن على تفاوت في الموضوعات التي ترد فيها، ويمكن القول أن الطابع المميز للمقدمة هو هذه الأسماء التي تزج فيها على نحو تقليدي، يكاد يكون متكافئا في جلّ القصائد الجاهلية. أما سائرها فإلى تباين واختلاف، ولا يطرد ذكرها فيه اطراداً يشكل ظاهرة واضحة وضوحها في المقدمة.

         والمطالع في تراث العربية، والمصورات الجغرافية، يقف على حقيقة أن جل الأعلام الجغرافية إنما تتمركز على جوانب طرق القوافل والحج، وقليل منها يتناثر هنا وهناك، مما يشير إلى أن السبب الذي أدى بالناس إلى إطلاق الأسماء عليها، فهم يسمون منازلهم، وما يكتنفها من الجبال والموارد، ويسمون أعلام الطرق وغيرها من المواقع الجديرة بالتسمية، أما المناطق التي قلما يتلبثون بها، والتي لا يمرون بها إلا لماما، فإنهم لا يسمونها إلا نادرا.

         وقد تبصرنا في الموضوعات التي تشيع فيها الأعلام الجغرافية، واجتهدنا في حصرها، فإذا هي، في العم الأغلب، لا تعدو كونها واحدة مما يلي:

 

1.   مقدمة القصيدة.

وهي ما يعرف بالمقدمة (الطللية)، إذ يكثر أن يذكر الشاعر أسماء عدد من المنازل والنجوع، التي غالبا ما تكون خالية مقفرة (إلا من الآجال) (أو بها العين والآرام يمشين خلفة) وربما كانت ديار قومه، سكنوها في صباه، فمرّ بها بعدما تقدمت به السن، فتذكر شبابه، فبكى المكان، وهو في الحقيقة، إنما يبكي على ما فات من عمره، ولعلّ في تحسر كثير من الناس على " أيام القلة ـ أيام زمان" ما يترجم ذلك بوضوح، ويحكيه حكاية صادقة.

    ولا نستبعد أن ذكر احدهم امرأة هنا وأخرى هناك، إنما تولد جراء التنقل من منزل لآخر:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى                          ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى                         وحنينه أبدا لأول منزل
وقول الآخر:

أمر على الديار ديار ليلى                      فألثم ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي                        ولكن حب من سكن الديارا
وما نرى احدهم كان يعف عن أن يستبدل بالحب آخر، لأن ظروف حياتهم كانت تقتضي ذلك، وتفرضه فرضا، ومن هنا، اقترن ذكر الأماكن في المقدمة، بذكر المرأة في الغالب، سواء أكانت من قبيلة الشاعر، أو من قبيلة سواها. وانظر في قول زهير، تقف على مصداق ما تقدم، يقول:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله                       وعرّي أفراس الصبا ورواحله
بتثليث أو نجران أو حيث تلتقي                    من النجد في قيعان جاش مسايله
فقد ذكر سلمى، والشباب والأماكن الواردة في البيت الثاني. وهي فيما نرى أماكن سكناه في شبابه، إذ أن بينها مسافات بعيدة، لاسيما بين نجران وتثليث، ولقد أتيح لي أن أقيم بنجران سنة 1965م، وقريبا من جاش وتثليث ـ في صبيخة قحطان عام 1971م.

وهذا نابغة بني ذبيان، يدعو الركبان ليعرجوا على دمنة الدار التي نزلتها نُعم، لأداء التحية، ويتساءل مستنكرا: ماذا تحيون من نؤي وأحجار؟ ما جدوى ذلك لولا ان فيه عزاء ووفاء لنعم، التي سكنت هذا الموقع، وكانت دارها قريبة من هذه الدمنة؟

عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار                            ماذا تحيون نؤي وأحجار
    ومن المقدمات التي ذكرت فيها الديار الآهلة على غير عادة الشعراء الجاهليين، ما نجده في تائية امرئ القيس إذ يقول:

غشيت ديار الحيّ بالبكرات                        فعارمة فبرقة العِيَرات
فغول فحيلت فنفء فمِنْعَج                           إلى عاقل فالجُب ذي الامرات
    فكأن الشاعر تردد على كل هذه المواقع وطاف بها، وهي متباعدة بقدر ما توحي به الفاء التي عطفها بها، فكأن القوم كانوا كثيرا فتقرقوا فيها.

 

2.   الشيم.

وهو لغة مراقبة البرق والمطر لمعرفة أين يصوب (المطر) كي ترتحل الناس إليه فيما بعد، على نحو ما يتضح في قول امرئ القيس:

نشيم بروق المزن أين مصابه                        ولا شيء يشفي منك با ابنة عفزرا
    إذ يشير هذا البيت إلى أن العب كانوا يجدون في شيم البرق شفاء للنفس وراحة لها، ذلك لاقترانه في الغالب بتنزيل الغيث، الذي هو رحمة للناس. فعرفوا منه أنواعا، وفرّقوا بين برق وليف و وميض وخفو وعقيقة وخُلَّب، وكانوا يحصونه عددا، فإذا بلغ سبعين وثقوا بالمطر  ولبثوا أياما ثم اتوا مساقطه، فإذا هي رياض تندى.

    ومراقبة البرق تقتضي معرفة المواقع التي يستطير فوقها، لارتيادها من بعد، ومن امعن النظر في الأشعار التي ذكر فيها البرق، يقف على ترجمة صادقة للحقيقة السابقة، قال شاعرهم:

تبصّر خليلي هل ترى ألواح برق                                أوائله على الأفعْاة قعود
قعدت له وشايعني رجال                                          وقد كثر المخايل والسدود
    فقد نظر واستنظر غيره، وحدد موقعه، وقد قعد يراقبه مع شيعة من قومه، في وقت كثرت فيه السحب المخيلة التي تعد بالمطر. قال امرؤ القيس:

أصاحِ ترى برقاً أريك وميضه                       كلمع اليدين في حصبي مكلل
قعدت له وصحبتي بين حامر                        وبين أكام بعد ما متأمل
    فالشاعران توجها بالخطاب لصاحبيهما في غير مقدمة طللية، ولكن في حديث عن برق ومطر، وقد يسهل الدمج بين الموقفين، إن أن الشعراء كثيرا ما استمطروا السماء، ودعوا بالسقيا لديار الأحبة، على نحو ما نجده فيقول الشاعر:

سقى بلدا أمست سليمى تحله                      من المزن ما تروي به وتسيم
    إذ دعا للبلد الذي تحله هذه المرأة بالمطر الغزير، تروى به الماشية، وينبت العشب وتصلح عليه الماشية.

    ويذكر امرؤ القيس في بيتيه السابقين من الأعلام الجغرافية حامرا، أو ضارجا (في رواية أخرى) وأكاما، ويستطرد في الأبيات التالية له، فيذكر المواقع التي نزل عليه المطر، وهي طمية، المجيمر، ثبير، قطن، بيسان وغيرها. وربما طال بالشاعر وقت المراقبة إلى أن ينزل الغيث، وتسيل الأودية بماء السماء، فهذا هو امرؤ القيس أيضا يقول في برق:

قعدت له وصحبتي بين ضارج                     وبين تلاع يثلث فالعريض
أصاب قطاتين فسال لواهما                     فوادي البدي فانتحى للأريض
      ويجري على نسقه قوله في رائيته:

تبصر خليلي هل ترى ضوء بارق                يضيء الدجى بالليل عن سروحميرا
أجاد قسيسا فالطهاء فسطحاً                وجوا فروى نخل قيس بن شمرا
    فهذا البرق يستطير يرعج في ليل مظلم، وتتكشف به البلدان من بعيد، إذ أضاء سرو حمير في بلاد اليمن، وطالت مياهه نخل قيس بن شمر، الذي لا بد أنه كان بعيدا جدا من المكان الذي كان فيه الشاعر، ومن سرو حمير، لا سيما أن سرو حمير (جزء من السراة) وهي لا تعرف بالنخيل لا قديما ولا حديثا.

    وتعكس الأبيات التالية للنابغة الذبياني، صورة حافلة بالحيوية والحركة، لما كان عليه العرب قديما من غب الدجن، وانتشار السحب المخيلة، وخفقان البروق، من احتفال بذلك، ومراقبة للأماكن المعلومة بأسمائها، فيقول:

أرقت له وأصحابي قعود بربوة                        لبرق تلألأ في تهامة لامع
قعدت له وذات العشاء فلم أنم                                       لدى مرقب من هضب نخلة فارع
وقلت تأمل صاح أين مصابه                                        أجاد على ذي قرتني فالفوارع
لتَرْعَ سعاد حيث حلت، نباته                                   وأحبب بسعدى من خليط موادع
        فقد قعد مع أصحابه في موقع عال لمراقبة برق راح يلمع ليلا في تهامة، وقد حال ذلك العمل دون نومه، لا أرقا لكن فرحا به، وكان ذلك القعود عقب العشاء، وفي مرقب مشرف من هضبة نخلة، وقد يتساءل أحدهم عن البرد، ألم يلجئهم إلى منازلهم؟ فنقول: إن الغالب في أمطار نصف الجزيرة العربية الجنوبي، أن تكون في الصيف، حيث يشيع الدفء ليلا، وترتفع درجة الحرارة نهارا.

    ويمضي الذبياني في رسم الصورة، بإجراء حوار بينه وبين صاحبه، يسأله، أو يخبره أن ذلك البرق مصحوب بمطر نزل على ذي قرتني والفوارع، حيث يقيم أهل سعاد، ذلك لترعى ماشيتها، ويطيب لها المقام فيها.

    وفي هذه الصورة وأمثالها، إشارة إلى دور الماء في تخطيط دورة الحياة في الجزيرة العربية، وأهم مصادره المطر، الذي غالبا ما يكونمصحوبا بالبرق والرعد. ولسحيم عبد بني الحسحاس، أبيات تترجم ما تقدم إذ يقول:

فدع ذا، ولكن هل ترى ضوء بارق                          يضيء حبيا منجدا متعاليا
يضيء سناه الهضب هضب متالع                                    وحب بذاك الهضب لو كان دانيا
نعمت به عينا، وأيقنت انه                                     يحط الوعول والصخور الرواسيا
فهذا البرق يخفق فوق هضب متالع، وهو بعيد من منزل الشاعر، بدليل قوله "لو كان دانيا" ولكنه مع ذلك مسرور به سرورا بالغا، لأنه جاء مصحوبا بمطر غزير يحط الوعول، ويدهدي الصخور من الجبال، إن في ذلك ما يبعث الفرحة في النفس، ولو لم يتنزل على دياره، وهو مهما بعد إلا أنه قريب لمن أراد الانتجاع إليه، وقد رأينا بدو الربع الخالي ، يبتهجون لنزول المطر فرحة الطفل بأمه، ويكسفون إذا احتبس، كما سمعناهم في تهامة عسير يتبادلون التهاني عقب المطر بقولهم: تباركن امرحمة (أي تباركت الرحمة)، يطمطمون!

    ومن الجدير بالملاحظة في الأبيات الثلاثة السابقة، أن الشاعر استهلها بقوله: (فدع ذا) أي كف عما كنت فيه من الحديث، وهات القول في موضع أهم وأولى، ذلكم هو حديث المطر والبرق.

وهذا الأسلوب شائع في أدب العرب قديما، على نحو ما نجده في قول زهير:

" دع ذا، وهات القول في هرم"

ومن الأشعار التي استهلت بهذا الأسلوب، أبيات لخفاف بن ندبة يقول فيها:

فدع ذا، ولكن هل ترى ضوء بارق                       يضيء حبيا في ذرى متألق
    والصورة ها هنا لمنخفض جوي سحيق، إذ ذكر الحبي، وهو ما تدلى من السحاب فوق الأرض، فكأنه يحبو، والذرى المتألقة بالبرق، فكأن الشاعر يقول لجليسه: دع عنك ما أنت فيه، وتعال نراقب السحاب والبرق، ففي ذلك ما يؤنس أكثر.

    وقد تناسخت هذه الظاهرة في التراث العربي الرسمي والشعبي، حتى غدا البرق مثيرا للأحاسيس وباعثا للأشجان، فهذا هو مصطفى  وهبي التل، الشاعر الأردني المعاصر المعروف بعرار يقول، وقد ذكر البرق:

ناض بحسبان فهشت له حسمي                               ووادي يتمها رحبا
    إذ جعل حسمي ووادي اليتم الواقع إلى الجنوب الشرقي منها، يهشان ويرحبان بالبرق، الذي راح يسطع فوق حسبان، الواقعة إلى الجنوب الغربي من عمان.

    وكثر اقتران البرق بنجد واليمن والشام، مما حدا ببعضهم أن يؤلف كتابا باسم البرق الشامي واليماني، وشاعت عبارات مثل: تألق البرق نجديا، ولمع البرق اليماني، وهذه الخيرة مطلع أغنية شعبية خليجية، وما نرى ذلك إلا كان في أعقاب اتساع رقعة الدولة الإسلامية، وخروج العرب إلى الأمصار، فكانوا إذا رأوا برقا يلمع في اتجاه أوطانهم يذكرونها، وتجيش أحاسيسهم بفيض من الذكريات، مما أنتج آخر المطاف، تلك الدلالة الهامشية للبرق. ولمن أراد أن يطلع على مزيد من ذلك، فلينظر في بحثينا: السيرة النجدية في التراث العربي ـ مجلة الدارة السعودية، والبرق في الأدب الشعبي ـ مجلة مأثورات شعبية ـ قطر.

    ومن هنا، كثر ذكر الأعلام الجغرافية عند الحديث عن البرق والمطر ... ذلك للتعليم على مواقعها كيما ترتادها الناس من بعد.

    وبإيجاز، يمكن القول، أن السماء أشبه ما تكون بالصحراء، ولا بد للتعليم على بروق السماء بأعلام على الأرض من جبالها الأوتاد الرواسي، ومن وديانها وحزونها وهضابها وحراتها.

 

3.   المغازي والأيام.

ويلاحظ أن العلام الجغرافية غالبا ما تذكر في الأشعار التي يتحدث فيها الشعراء عن مغازي قبائلهم، وعن أيامهم مع غيرهم من القبائل. ذلك لأن هذه المناشط إنما تجري في أماكن معينة، والحديث عنها لا يتم دون تحقيقها بذكر مواقعها؛ من جبل أو صحراء أو ماء أو غير ذلك، لا سيما أنها كثيرا ما تقع بسبب الاختلاف على ماء أو مرعى، فإذا ذكره الشاعر، سماه باسمه المعلوم.

فيقول اوس بن حجر واصفا قتلى بعض الغزوات:

كأنهم بين الشميط وصارة                      وجُرثم والسؤبان خُشب مصرع
    فقد دارت رحى الموقعة بين تلك الأماكن التي تنتشر فيها جثث القتلى، وهي الشميط، وصارة، وجرثم، والسؤبان، وربما سهلت الهمزة "السوبان". ويقول طفيل الغنوي في مطولته البائية:

ساق الرفيدات من جوش ومن حدد                    وماش من رهط ربعي وحجار
فإن غضبت فإني غير منفلت                    مني اللطاف فجنبا حرة النار
فموضع البيت في صماء مظلمة                       تقيد العير لا يسري بها الساري
تدافع الناس عنا حين نركبها                         من المظالم تدعى أم صبار
(اللصاف جنوب غرب الكوفة، معروف إلى اليوم باسمه هذا)

    ونعتقد أن النابغة إنما عرف هذه الأماكن عندما لجأ إلى الغساسنة، فارا من النعمان بن المنذر، فأقام في بادية الشام ما أقام، والأبيات تتحدث عن غزوة طالت بني الرفيدات، التي كانت تسكن في جوش وحدد واللصاف، وجنبي حرة النار ـ والعرب تكني الحرة أم صبار، وكانوا يلجؤون إليها إذا هاجمهم العدو، لصعوبة السير فيها؛ لما يفترشها من الحجارة البركانية. والأماكن المذكورة تنتشر في بادية الشام، إلى الجنوب من درعة السورية، وفي شمال الجزيرة العربية، وفي ديار بلقين من جسر وجذام. وقال عبد الله بن رواحة في موقعة مؤتة:

جلبنا الخيل من أجأ وفرع                        تغر من الحشيش لها العكوم
أقامت ليلتين على معان                        فأعقب بعد فترتها جموم
فلا وأبي مآب لنأتينها                        وإن كانت بها عرب وروم
     إذ ذكر المواقع التي تقاطر منها المجاهدون في سبيل الله، من أجأ (وسلمى) وفرع، وأقام المسلمون ليلتين على ماء معان (المدينة الأردنية المعروفة) ثم أقسم ليغزونّ مآب إلى الشمال منها.

    إن في ذلك ما يؤكد أهمية ذكر المواقع في العمليات العسكرية قديما وحديثا، وقد كان ذلك شأنهم كما ترى.

 

4.   الرحلة

من الموضوعات التي كان لها نصيب وافر من أشعار الجاهلية، وجاءت حافلة بالأعلام الجغرافية ـ الرحلة، رحلة الشاعر أو القبيلة من منزل لآخر، أو من بلد لأخرى، لأنهم يمرون أثناء ارتحالهم بمواقع وبلدان يذكرونها، وربما أسموا أعلام الطرق والصوى بما يحددها ويسهل عملية الاهتداء بها. يقول امرؤ القيس:

تقطع أسباب اللبانة والهوى                          غداة تجاوزنا حماة وشزرا
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه                    وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
    فالبلدان حماة وشيزر، والدرب، هي أعلام على الطريق المؤدي إلى بلاد الروم، بل الدرب لفظ يستعمله العرب للتعبير عن الطرق المؤدية إلى بلاد الروم على وجه الخصوص.

ويقول في قصيدة أخرى:

فريقان: منهم جازع بطن نخلة                        وآخر منهم جازع نجد كبكب
والمعنى أن القوم انقسموا قسمين؛ فمنهم من سلك الطريق التي تخترق بطن نخلة، ومنهم من سلك نجد كبكب. ومن هذا القبيل الشاهد اللغوي المشهور:

خذا جنب هرشي أوقفاها فإنه                         كلا جانبي هرشي لهم طريق
وهرشي جبل على الطريق من الحجاز إلى تهامة، ويؤخذ عن يمينه أو يساره.

ونكتفي في توضيح هذه الحقيقة، في عدة أبيات لزهير بن أبي سلمى في معلقته، تعقب فيها طريقا سلكته الظعائن، وذكر أعلام ذلك الطريق بما يعرفه للسامع أو القارئ فيقول:

تبصر خليلي هل ترى من ظعائن                             تحملن بالعلياء من فوق جرثم
بكرن بكورا وستحرن بسحره                             فهن لوادي الرس كاليد للفم
جعلن القنان عن يمين وجزنه                              وكم بالقنان من حل ومحرم
ظهرن من السوبان ثم جزعنه                          على كل قيني قشيب ومفأم
    فذكر المكان الذي خرجن منه (العلياء من فوق جرثم) والمكان الذي صرن إليه، وهو غير بعيد عن وادي الرس، وقد مررن عن شمال جبل القنان وحزن القنان، وهو موضع قريب من منى. ثم اتجهن صوب وادي السوبان، وهو واد بدليل قوله "ظهرن" و "جزعن" وهذان من الأفعال الخاصة بالمنخفضات يقطعها السالك، والجازع هو بطن الوادي يقطع منه.

    ومن الأبيات التي توضح ما كان عليه الناس قديما في سيرهم شم الطريق، سوفها، ومنه تولدت كلمة المسافة لدلالتها المعاصرة، ابتداء من قول امرئ القيس في طريقه:

على لاحب لا يهتدي بمناره                          إذا سافه العود النباطي جرجرا
واشتكى لما أدركه من طول المسافة بعد شمه، وقد تناسخ هذا المعنى في شعر رؤبة إذ قال:

إذا الدليل استاف أخلاق الطريق

أي شمها ليدري أعلى هدى هو أم ضلال. وهذا هو شاعر آخر يصف طريه وقد أخذ يخرج من بادية الشام مستأنسا بالعمران بعد أن كاد يضل طريقه فيقول:

وقطعت من عافي الصوى متحرفا                          ما بين هيت إلى مخارم فيق
       أي حول مساره على الطريق ذات العلام الطامسة، وسلك ما بين هيت ومخارم (منخفضات الجبال) فيق، وهي بلدة بسورية في هضبة الجولان.

          ومما ينسب لحاتم الطائي يخاطب الحارث بن أبي شمر، وذكر بعض مراحل الطريق من الشراة جنوب الأردن إلى الحلة فقال:

إنما بيننا وبينك فاعلم                             سيرتسع للراكب المنتاب
وثلاث من الشراة إلى الحلة                     للخيل جاهدا وللركاب
وكان الحارث في جبلي طئ (أجأ وسلمى).

 

5.   المياه:

للماء دور أساسي في حياة الإنسان، ويكثر ذكره في حياة العرب، ولا يُذكر الماء إلا باسمه، ولو بإضافته إلى موقعه، أو للقبيلة التي تستأثر به، كماء مدين، بل ربما أسموا بعض المواقع باسم "المياه"، ومن ذلك موضع في بلاد عذرة قرب الشام، ذكره ياقوت. وربما أسموه اسما لا يدل عليه كالفردوس، من الشاهد النحوي المشهور:

فقلن على الفردوس أول مشرب                أجل جيران كانت أبيحت دعاثره
إذ هو هنا اسم ماء بعينه، حسيا كان أم عينا أم بئرا.

    وغسان اسم ماء في بادية الشام، وإنما سمي الغساسنة بهذا الاسم نسبة إليه، لأنهم نزلوا عليه فيما يقال. وما نرى "معان" المذكور في أبيات عبد الله بن رواحة السابقة، إلا ماء استوطن العرب من حوله حتى غدا مدينة. ودليلنا على ذلك قوله "أقامت ليلتين على معان" أي على ماء معان. وأنشد ابن الأعرابي:

فصبحن من اعلى أمرّ ركيةً                       جلينا، وصلع القوم لم يتعمموا
    والركية هي الحسى، والحفير يتحلب في أسفله الماء، وأمرّ موضع في بادية الشام من جهة الحجاز على طرف بسيطة من جهة الشمال، أي في الأردن.

    ومن إضافة الماء إلى موقعه، قول زهير بن أبي سلمى في حمار وحشي:

كأن سحيله في كل فجر                        على أحساء يمؤود دعاء
ويمؤود موضع بعينه، وأحساؤه حفائر الماء فيه.

وأورد البكري قول الأعشى:

ما مزبر جادت له                       من خلفه ريح الشمائل
أضحى بعانة زاخرا                        فيه الغناء من المسايل
وهو في سيل يسيل بعانة من نبع يتدفق فيه، ونزل مطر غزير فجعل الزبد يعلو متنه وخرير الماء ينتشر في الشعاب.

*******************************

نستطيع ختاما لهذا البحث أن نقول إن ذكر الأعلام الجغرافية في القصائد الجاهلية، يمثل ظاهرة يمتاز بها أدب تلك الحقبة، وأكثر ما يكون ذلك في مقدمات القصائد، وفي المقاطع التي يتحدث الشعراء فيها عن الرحلة، والبرق، والمطر، والمياه، والوقائع. إضافة إلى ما شاع أمره من المنازل والديار.

ويمكن الربط بين هذه المسائل بأنها تمثل الماء والمكان، وما ينجم عنهما من عشب واستيطان، قد يؤدي التنافس عليهما إلى التنازع ونشوب الصراعات القبلية، ولقد كان.

ويوضح ما سبق، التصاق العرب بالبيئة قبل الإسلام، التصاقا يؤكد فطريتهم واندغامهم في البيئة الطبيعية جزءا منها، وانسجامهم مع ظروفها أيما انسجام.

وقد تغيرت الصورة عقب الإسلام؛ بما أحدثه من تغيرات جذرية في مجرى الحياة، ومهد إليه من نقلة حضارية، طفرت بالعرب إلى الأمصار شرقا وغربا، وحدّت من التبدي بعض الشيء، فقل التصاق الناس بالمكان؛ نظرا لانتقالهم إلى أوطان جديدة وظروف جديدة.

إن الوقوف بالمنازل والديار، كان شغلا لمن لا شغل له، وذلك شأن كثير منهم في الجاهلية، إذ كانوا يعيشون حياة سطحية بسيطة، إنها أشبه بلعب السيجة وبعض المهارات التي لا طائل من ورائها، أو كما يقولون في المثل الشعبي "قلة الشغل بتعلم التطريز" و "الفاضي بعمل قاضي"، فقد خلت حياتهم من أوجه التسلية والإيناس، فوجدوا في الأطلال ما يستثير قرائحهم، واستبدت براكبهم الوحدة والوحشة، فجرد من نفسه خليلا، وراح يناجيه قف بالطلول، أو قفا نبك، ونحو ذلك.

وقد نطرح المسألة بطريقة مختلفة، تتمثل في أن أحداث حياتهم كانت تدور على بساطتها في بيئة واسعة، ويقتضي الحال أن تذكر الظروف المكانية وأسماء الأماكن (الأعلام) التي شهدت تلك الأحداث.

أما أهل الحواضر، فإن مناشطهم تجريفي الحقول والعقارات ... وذلك ما قد نجده في أشعارهم، إضافة إلى بعض الأماكن التي يقصدونها في حج أو تجارة أو زيارة، وذلك من شأنهم قليل، قياسا بمن كانت الرحلة الدائبة دينهم وديدنهم.

وإن دراسة الأعلام الجغرافية الواردة في أشعار الجاهلية، لتعود بفائدة كبيرة، ذلك أنها تمكننا من معرفة الإطار الجغرافي الذي عاش فيه الإنسان العربي قبل الإسلام، والمناطق التي امتد إليها نشاطه، ولهذا، كان لا بد من دراسة هذه الأعلام، والعمل على تحديد مواقعها، ووضع مصور تفصيلي للجزيرة العربية، وحواشيها الشمالية من بلاد فارس إلى الشام، ومصر، وهضبة الحبشة.