آلآن وقد....

yahyaj's picture
Year: 
2009

 

 

 

آلآن وقد " ....."؟

 

أ.د. يحيى جبر

أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية

 

لا بأس في مراجعة الماضي للتوصل إلى تغذية راجعة تسهم في تصحيح المسار، لكن ليس دائما، لا سيما إذا فات الأوان؛ إذ تكون المراجعة جلدا للذات، أو طلبا للرجعة وقد حانت المنية. سأكتب بصراحة ناصعة، وأضع النقاط على الحروف، فما كنا لنصل إلى ما نحن عليه لو كنا نقوم بالمراجعة أولا بأول، أو لو كان هناك من يستمع إلى طلاب المراجعة حينما يقرعون أجراس الإنذار قبل فوات الأوان، لقد كانت الأربعون عاما الماضية حافلة بالصخب والضوضاء؛ حتى لكأنها لم تكن أكثر من قنبلة صوتية، وقعقعة ولا طحن، مارسناها ومارسها النظام العربي من حولنا، وبعض الجماهير العربية.

قبل أربعين عاما كنت في مستشفى المدينة المنورة أتلقى علاجا من حمّى خيبر، وقامت الحرب، خفّت آلامي، سمعت الناس، يومها، والأطباء يتحدثون عن احتمال تقدم القوات المصرية لمطار اللد، وصرنا نمنّي النفس بتحويل رحلة العودة من مطار عمان إلى مطار اللد _ والله العظيم _ ولكن اللطمة التي تلقيناها في اليوم التالي كسرت حاجز الرعب فينا؛ فخرجنا في مسيرة إلى قصر الأمارة استنكارا وغضبا؛ ومن كان يجرؤ على التظاهر في السعودية آنذاك؟ ولكن...!.

لكن من الضروري قبل الاسترسال أن نعرّج على إنشاء منظمة التحرير التي سبقت ذلك بثلاث سنوات، بدا ذلك في حينه، وما يزال من وجهة نظر بعينها، وكأنه نصر من الله وفتح قريب، لولا أن المنظمة لم تولد من رحم الشعب، بل بقرار قمة لم تولد هي الأخرى من رحم الأمة، بل لعلها جاءت تطويقا لما كان يمكن أن تتمخض عنه التفاعلات القومية آنذاك، واستباقا للأحداث.

وانطلاقا مما تقدم، لا يمكن أن نتصور منظمة التحرير قادرة على تخطي النظام العربي بحال من الأحوال، ولما كان النظام العربي ( معتدلا!) في جملته، أو من حيث الدول المسيطرة على القرار العربي؛ فإن منظمة التحرير لا بد أن تكون متناغمة مع هذه الحقيقة، لأن العرب لم يؤسسوا المنظمة للتحرير، بل ليحملوها مسؤولية القرار الفلسطيني، الذي سنجده من بعد مسايرا للأحداث والمتغيرات بنَفَس دولة لا بنَفَس ثورة، وبالفعل فقد بدأت المنظمة توفد البعثات تمهيدا لقيام الدولة! لو أن الزبيب يكون قبل العنب.( نذكّر هنا بعزل الشقيري وتعيين السادات نائبا لعبد الناصر استجابة لطلب بعض هذه الدول، انتقاما منه لدعمه الثورة اليمنية سنة 1962).

كان الهدف المعلن لمنظمة التحرير تحريرَ الجزء الذي احتُل من فلسطين عام 1948م، ولكن هذا الهدف تغير من بعد ليصبح تحرير ما احثل عام 1967م، بدليل ما جرى مؤتمر الرباط عام 1974، ومن بعد في مدريد عام 1992 ثم في أوسلو، حتى كانت الانتفاضة الثانية والأحداث التي توالت من بعد،... أعني ما يتلظّى الشعب في لهيبه من الفتنة الأهلية، والصراع بين ما يقتضيه طلب الحياة، وما يقتضيه الاستقلال والحرية، وهما مشروعان، لكن كيف نوفق بينهما، وهذا هو لب الصراع.

أنا لا أصدق أن الاقتتال الدائر في بعض المناطق الفلسطينية هو صراع بين فتح وحماس، ولا أصدق أن عنصرا من هذا الفصيل أو ذاك؛ يمكن أن يضمر لأخيه في الفصيل الآخر أي شر ما دامت تسري فيه روح الفصيل الذي ينتسب إليه. غير أن ذلك ممكن إذا اتُّخذ الفصيل ستارا.

بعد أربعين عاما سقطت الأقنعة عن بعض الوجوه، ونزلوا عن الجبل قبل تحقيق الأهداف، وما كان أولئك لينجحوا في إخفاء الحقائق لولا المصفقون الذين يملؤون الدنيا من حولهم بالصراخ والضجيج، ممن حالوا بينهم وبين من يمكن أن يقدم لهم النصيحة، فتصدروا المسيرة؛ وفي المجتمع من هو أولى منهم، وتحدثوا باسم القضية وما هم من أهلها، وبكوا منظمة التحرير بينما كانوا يتآمرون عليها قبل ربع قرن، حتى أفرغوها من بعض محتوى أبقاه النظام العربي فيها.

في أواخر السبعينات من القرن الماضي، كان الواقع الذي آلت إليه الأوضاع على الساحات المختلفة ينذر بتراجع خطير في مسار القضية، وبدت تلوح في الأفق أفكار وطروحات من شأنها أن (تُنفّس) المد الثوري، عازفون لم يظهروا من قبل في الأوركسترا، ومعطيات على الساحة اللبنانية توحي بانقلاب وشيك، فتعاظمت بعض القوى، وتراجعت أخرى، وحدثت انقسامات في بعض الفصائل متمردة على التوجهات الجديدة، وظهرت حركات جديدة كحركة اللجان الثورية الفلسطينية، التي جوبهت بهجمة شرسة بحجة أنها تهدف للنيل من منظمة التحرير، لو لم تكن هذه لكل الفلسطينيين، ولو لم يكن هناك من يحاصر الإرادة الشعبية ويحول بينها وبين أي خيار قد تراه خارج الأطر والتنظيمات التي كانت قائمة آنذاك؛ بمعنى: إذا أردتَ أن تعمل فهذه الفصائل أمامك، أدخل في أي منها واعمل، بمعنى آخر؛ الغ نفسك في غيرك.

ألا يحق لنا بعد أربعين عاما على النكسة، أن نتساءل ما الذي ستؤول إليه الأوضاع بعد مرور ستين عاما على النكبة؟ أي بعد عام من الآن؟ كيف سيكون الاستعداد لإحياء الذكرى؟ أيكون اللاجئون قد عادوا؟ أتكون الحواجز قد زالت من الضفة، وبين الضفة والقطاع؟ أتكون السجون قد أُخليت تماما إلى غير رجعة، لا أن يُخلى منها خمسة فيودع مكانهم أربعون؟.

المعطيات فلسطينيا لا تبشر بخير كثير، لا سيما في ظل الصراع الذي يكاد لا يخبو حتى يهيج من جديد، وفي ظل التدخل السلبي الذي تمنُّ به الدول العربية المعتدلة، دون أن يطلب منها، لا من شعوبها، ولا من الشعب الفلسطيني، وإنما يأتي في سياق التماهي مع التوجه الأمريكي الإسرائيلي، وتخوّفا من أن يتشكّل في فلسطين نظام يحرج هذه الدول ويُعَرّيها أمام شعوبها، فتظهر على حقيقتها التي طالما أخفتها؛ مقصّرة في واجبها، منسجمة مع الاستكبار العالمي في نشأتها وسلوكها.

بعد أربعين عاما أصبح ما كان يُصنَّف خيانة _ وجهة نظر تجد من يتبنّها ويجاهر بها دون حياء، بينما كان بالأمس يتهم غيره بالخيانة إن هو تلفّظ بكلمة مما يقول. بعد أربعين عاما ما زال  الفلسطينيون يريدون فلسطين وطنا، بينما يظهر من بينهم من يريدها سوقا. بعد أربعين عاما تعود فلسطين كما كانت؛ تمتد إليها عيون الطامعين، ويظل شعبها يعاني الأمرّين من حصار الغريب والقريب.ورحم الله أبا فراس وقد وقع في الأسر لدى أخواله الروم، دون أن يحرّك قريبه سيف الدولة ساكنا لنصرته، فأنشأ يقول:

لئن توجعت من أخوالي الروم مرة   توجعت من أعمامي العرب أربعا

أجل، فالعرب يريدونك تابعا بلا رأي، رقما يحسن التصفيق والتسبيح بحمد وليّ النعمة، لكن  كيف لا يكون الأمر كذلك وأنت تجد من أبناء جلدتك من يجلدك إن أنت رفعت صوتك، فهو يهددك مرة في معاشك، وحينا بسفك دمك، وحينا بالتضييق عليك، وحرمانك من الحرية والحقوق؟

        قبل أربعين عاما كانت فاطمة ما تزال تحلم بالعودة، بالرغم من أنها كانت قد ضاعت يوم رُحِّل أهلها عام 48 وهي بعد ابنة عامين، حتى بعد احتلال الضفة والقطاع عام 67، كانت ما تزال تحلم بالأمل، ولكن الذين وقعوا أوسلو، والذين صفقوا لهم من العرب والعجم، ومن بعض الفلسطسنيين الذين لا يشعرون بمعاناة اللاجئين، أو يتخذون معاناتهم ذريعة للتنازل بحجة التخفيف منها، ممن يلهثون طلبا لفتات الموائد من عربية وغربية _ لكنهم قضوا بذلك على أملها في العودة.

        بعد أربعين عاما نجد مجتمعنا عاجزا عن إعادة إنتاج الثورة على نحو يكفل حشد جميع الطاقات، في ظل عدالة اجتماعة تقوم على الأخلاق الحميدة، ولكن يبدو أن الأطراف المعادية نجحت في نسف القيم الاجتماعية ، ونفذت اختراقات جسيمة على هذا الصعيد، ليس في الأوساط الفلسطينية وحسب، ولكن في البلاد العربية كلها؛ إمعانا منها في تطويق الحراك الاجتماعي البنّاء.

        بعد أربعين عاما ما زال الفلسطينيون بين ( فلاح، ومدني، ومخيمجي، وبدوي، وابن الحارة الفوقة وابن الحارة التحتا، وابن هذا الحزب وذلك الفصيل، وتلك القبيلة). ما زال المثقفون الفلسطينيون يستخدمون عبارة " المجتمع الفلسطيني"، حتى إذا مشيت في مخيم من المخيمات وأحد الأحياء في تلك المدينة؛ قلت: أحقا أننا ننتمي إلى مجتمع واحد؟.

ماذا بعد؟

 كل الثورات التي خاضتها الشعوب على طريق التحرر حققت أهدافها أو تكاد، واحتلال فلسطين أبغض أنواع الاحتلال، مما يعني أنه كان على الذين تصدروا ساحة النضال ألا يهنوا حتى ينجزوا ما أعطتهم الجماهير من مالها ودمائها من أجله. ولكن النضالات السابقة أجهضت، ولم تحقق للشعب أية مكاسب، قد نجد هناك من يقول: بل لقد نجحنا في تجسيد الهوية الوطنية وإبقاء القضية حية في المحافل الدولية، ونرد على هؤلاء بأن القضية حية بغير ذلك، يحييها المخيم ومعاناة اللاجئين، والمناضلين الشرفاء.

يبدو أن علينا أن نعيد إنتاج الثورة على هدي جديد، وأن نرفع الصوت عاليا في وجوه المنحرفين من أي جنس، وفي مقدمتهم أبناء جلدتنا الذين قوّضوا الثورة، وقايضوها بالمكاسب الخاصة. يجب أن نبيّض المفاتيح ( مبيّيّيييض!)، يجب أن يعاود الفلسطينيون في مهاجرهم شحذ هممهم، وألا يستكينوا لمشاريع التوطين والتدجين، يجب أن يحزموا أمتعتهم ويتوجهوا إلى الحدود، يجب أن نحتفل العام القادم في ذكرى النكبة الستين بيوم النصر وشيكا.